” مرآة الحياة “
” مرآة الحياة “
قبل تسعة عشر عامًا، وبعد غروب شمس يوم الأحد كان طفلا يحمل مرآةً صغيرة أمام وجه والدته بينما كانا يجلسان في فناء المنزل، ويقول: انظري هذه الشمس لا تغيب !
ابتسمت، وأكمل قائلًا: أرأيتِ؟! ألم أقل أن الشمس لا تغيب؛ لو كانت تغيب لما رأيت بُستانًا من الجوريّ على وجنتيكِ!
أطرقت والدته رأسها وقد اغرورقت عيناها بالدموع ، متوجسة من غياب هذه الشمس المؤقتة، لا تدري كيف تخبره أن هذه الشمس لابد أن تأفلُ يومًا ما، نظرت نظرةً مطولة إلى عينيه – اللواتي تُبحر بها في عالم سماوي – وهي تتجرع خوفها كما يتجرع المريض دواؤه !
مسحت على رأسه وقالت : بنيّ ما رأيكَ بأن نقوم بتجهيز رُكن خاص بك؟
قال: ركن ماذا؟
قالت: أنت دومًا تُذهلني بعباراتك، أعلم تمامًا بأنك ستصبح كاتبًا كبيرًا، وستظهر على التلفاز كما يظهر بطلك المفضل لكنك ستصبح أفضل منه!
– كيف أصبح أفضل منه؟
– اقترب قليلًا سأخبركَ كيف ولا أود أن يسمع أحد هذا السّر!
ابتسم الطفل وأغلق فمه بيديه ليكتم ضحكته ثم اقترب، قالت الأم: السر أن لدّيك جمهورًا غفيرًا ينتظر بأن يقرأ ما تكتبه هاتان اليدان، أو يشاهد ما سترسمانه، جمهورًا يشعل الدنيا بِهتافه من روعة ما ستخطّ أناملك!
تحمّس هذا الطفل، وراح يركض سريعًا نحو مكتبة المنزل، فتح الأدراج ليبحث عن ورقة وقلم ولم يجد، سحبَ السّلم الصغير الخاص به نحو أرفف المكتبة ولم يلحق بالرف الثالث، فمد يده ولمس ورقةً سحبها وأخذها؛ وجد بأنه قد كُتبَ عليها ” ابني الكاتب، الشاعر، المفكر، المبتكر، المخترع، العبقريّ للغاية.. اكتب هذه الرسالة وأنا موقنةٌ تمامًا بأنك لن تكون شخصًا عاديًا، أنت تحمل بداخلكَ كونًا آخرًا، مجرة من الأفكار الذكية. لكن أرجوك عدني، عدني بأنك ستهطل كما الغيث، خفيفًا، لطيفًا، طيبًا!
عدني بأنك لن تنقطع عن عالم ممتلئ بالحب، ولن ينزعك انشغالك بالكتابة، والابتكار عن الاهتمام بالزهور في الحديقة، ولن تُشغلك عن إلقاء التحيّة على منزلنا، والابتسامة لجيراننا في زماننا القادم، لن تندثر رسائلك المُبهجة!
عدني بأن تكون أنت أنت، لن تصبح عالميًا مغرورًا يبحث عن الأضواء! ”
ابتسم ابتسامة تُشرق بأقطار العالم، أنبتت الياسمين في قلب والدته من جمالها.
ألتفت للخلف وبددَ الخوف الذي كان يعتريه؛ وجّه نظراته إلى جمهوره الأول وهو يصرخ قائلًا: سأصبح أفضل شخصٍ على الإطلاق!
صرخته دوّت بمراحل الزمان، استمرت لتسعةَ عشر عامًا !
أما الآن فهذا الكاتب، الشاعر، المفكر، المبتكر، المخترع، العبقريّ للغاية.. صار حديثَ الساعة، رفوفُ المكتبات مُدبجةٌ بمنشوراته، الشطر الذي توجد به لوحاته في المتحف هو الأكثر زيارة، ديوانه الشعريّ حفظه الصغار والكبار، صارت نظرياتهُ تدّرس بالمدارس، ابتكاراته تتوالى، اختراعاته كثيرة، عبقريُّ بالكتابة، والشعر، والرسم وكل شيء!
على الرغم من أن الإعلام صار مرآته إلا أنه لا يزال يقود سيارته نحو الشمال، مُتجهًا لحيّهم المهجور، حاملًا معه ذكرياته، طفولته، أصوات عائلته، متجهًا نحو العالم الأول عائدًا في الزمان، متشبثًا بالتاريخ، بالماضي، بالحُبِّ.
مُترددًا ما بين الحينِ والآخر على الضفةِ الأخرى من العالم، آخر ما تبقى من حنان والدته الراحلة.
مضى أسبوعه الأول بعد زيارتهِ الأخيرة لمسقط رأس (الكاتب العبقري) وبينما كان يتأمل وجوه المارّة بكافة أحوالهم ما بين سعيد، وحزين، صغير، كبير، جاهل، متعلم، فقير، غني، ويتيم مثله؛ يتأمل مسارات الحياة في وجوههم، وما فعلت بهم الحياة.
قهوته أحرقت يده ولم ينتبه، إلى أن أشار ليده طفلًا فقيرًا خلف الزجاج؛ نظر إلى يده فإذا بقهوته مسكوبة على يده إثر تحريكه لها بقوة أثناء تفكيره، ضحك وعاد ليرى ضحكةً لن ينساها مملؤة بكل مآسي الحياة، مسكوبٌ بها النُضج في سن الطفولة!
أشار للطفل بأن ينتظر قليلًا، وكتب له خلف ورقة الفاتورة الصغيرة رسالةً قصيرة مخبئًا مضمونها حتى عن حروف الورقة نفسها!
لا يرغب أن يشارك الطفل فرحته اليتيمة عدا وروده المجروحة إثر سقايتها بدمعاته الحارقة.
خرج ومد له الرسالة الصغيرة وبعضًا مما قد يُسليه في طريق عودته كـ كوبٍ من القهوة المثلجة، وقليلًا من البسكويت الساخن؛ كان مقابلها أن تبقى صورة الطفل راسخةً في ذهن الكاتب العبقريّ رسوخًا سرمدي، مضى كلًا منهما في طريقه عائدًا لعرينه مقاومًا المعضلات بابتسامته المشرقة.
عاد وأخذ المنديل الذي على طاولته وصار يشرح له مفصلًا ومبينًا حجم الدمار الذي حلّ به وهدم كيانه القوي بابتسامة منزوعٌ منها الفرح، عندما انتهى قام بطيّ المنديل ووضعه بجيبه خارجًا وهو مهشّمٌ عندما رأى الانعكاس الحقيقي له في الطفل اليتيم!
أخذ يسحب قدماه لمنزله وهو يُنشدُ مرثية بهاء الدين زهير ويردد أعمق بيتين وأعتاهنّ دمارًا :
” يعز عليّ حين أدير عيني أفتشُ في مكانكَ لا أراكَ
لقد حكمت بغربتنا الليالي ولم يكُ عن رضاي ولا رضاكَ”
و بقلبهِ – لا بيديه – يشد على وصيّة أمه.
وصلَ إلى منعطف الحيّ الذي تقطن به إنجازاته، وبلا توقعٍ ولا حيطة مسبقة للسهام المؤلمة سقطت عينه على تلفاز المقهى، وهوَ يبث مسرحيةً مأساوية للغاية نقلًا عن نزف الفقر واليتم والخوف التف حول قلبه مشنقةً، ولُفَ بالصمت والأسفِ.. خلف ابتسامته مجزرةً دامية؛ لا تكف عن التوقف! صار مُتكلمًا باكيًا، مصورًا مرتجفًا، شاعرًا خائفًا، و كاتبًا تكسرت أقلامه من كثرة أحزانه.
أخذ قطعة المنديل – مرةً آخرى – ليلصق به انفطار قلبه المتهشّم إزاء ما يحدث لموطِنه.
الكاتب، الشاعر، المفكر، المبتكر، المخترع، العبقريّ لم يجد دواءً يشفي داء الوحدة والفقد بعد رحيل والدته سوى التعلل بالذكرى؛ فصار يُجيد اللعب بأوتار القرّاء والمستمعين عبر حيرته هذه.
نعم زبن الحربي
