كُتاب الرأي

*تحدث بما يُفهم.. لا بما يُدهش*

*تحدث بما يُفهم.. لا بما يُدهش*

في دنيا تتسارع فيها المعارف وتتداخل فيها المفاهيم، لم يعد التحدث أمام الناس أمراً سهلاً كما كان في الماضي. فالحديث ليس مجرد ألفاظ تُلقى، بل رسالة تحتاج إلى وعيٍ بالسامعين، وإدراكٍ لمستوى عقولهم، ومراعاةٍ لاختلاف ثقافاتهم وتجاربهم. فكثيراً ما تضيع الحقائق بين ثنايا الكلام حين يُلقى بأسلوبٍ لا يناسب السامع، فيتحول العلم إلى غموض، والنصح إلى جفاء، والنية الحسنة إلى سوء فهم.
إن من أعظم مهارات الإنسان العاقل أن يُحسن اختيار لغته وفق من أمامه. فالناس درجات في الفهم، كما هم درجات في الثقافة والتجربة. وليس من الحكمة أن تتحدث مع الجميع بمنطق واحد، أو أن تظن أن ما تفهمه أنت سيفهمه غيرك بذات الصورة. فالتباين سنة بشرية، والعقلاء هم من يدركون أن التأثير لا يتحقق بكثرة الكلام، بل بحسن الأسلوب، وبالقدرة على تبسيط المعنى دون أن يفقد عمقه.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك، إذ كان يخاطب كل إنسان على قدر علمه وحاله. فإذا جلس بين العلماء، أفاض بالحكمة والبيان، وإذا جلس بين العامة، قرّب المعاني، وضرب الأمثال، وسلك طريق الرفق واللين. وكان من روائع توجيهاته قوله: “كَلِّموا الناسَ على قَدرِ عقولِهم، أتريدون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه؟”، في إشارةٍ بليغة إلى أن تجاوز مستوى الفهم قد يؤدي إلى رد الحق، لا عن عنادٍ، بل عن عجزٍ عن الاستيعاب.
إن التحدث بلغة الناس لا يعني التنازل عن العمق، بل هو ارتقاء في مهارة التواصل. فالمعلم الحقيقي هو الذي يستطيع أن يُبسّط المعقد دون أن يفرغه من مضمونه، والمفكر البارع هو الذي يلبس أفكاره ثوباً يناسب من يخاطبهم، لا أن يفرض عليهم ما لا يفهمونه. كم من عالمٍ ضاع علمه بين المصطلحات الثقيلة، وكم من مثقفٍ أُسيء فهمه لأنه لم يُحسن تبسيط فكرته، وكم من واعظٍ خسر تأثيره لأنه تحدث بما لا تطيقه عقول الناس.
وفي المقابل، ليس من الصواب أن تتحدث بلغة العوام وأنت بين أهل العلم والفكر، فلكل مقامٍ مقال. كما لا يليق بمن يملك فكراً رصيناً أن يجعل حديثه هزلاً أو سطحياً في موضع الجد، لأن البلاغة ليست فقط في التبسيط، بل في المواءمة الدقيقة بين عمق الفكرة وطبيعة المستمع.
ومن الحكمة أيضاً ألا يُظهر الإنسان كل ما لديه في كل مجلس، فبعض المعارف لا يناسب وقتها، وبعض الحقائق تحتاج إلى تمهيدٍ وصبر حتى تُقبل. فالناس لا يرفضون دائماً لأنهم لا يريدون الفهم، بل لأنهم لم يُمهَّد لهم الطريق إليه بعد. كم من فكرةٍ نبيلة قوبلت بالرفض أول الأمر، ثم تقبلها الناس بعد حين حينما وجدوا من يقدّمها بلطفٍ وحكمةٍ وتدرّج.
الحديث مع الناس مسؤولية، فالكلمة إما أن تكون جسراً أو جداراً، إما أن تفتح القلوب أو تغلقها. والمتحدث الحكيم هو الذي يزن كلامه بميزان العقل والحال والمقام، فلا يُثقل على سامعيه بما لا يفهمون، ولا يُفرّط في المعنى فيضيع المقصود. إنه يتحدث لا ليُظهر نفسه، بل ليبني وعياً، وليقرّب الحقيقة في صورةٍ يفهمها الجميع.
وفي زمانٍ تغمره الضوضاء وتكثر فيه المنابر والمنصات، باتت الحاجة إلى هذا الفهم أعظم من أي وقت مضى. فكم من منشورٍ في وسائل التواصل وُجه بغير أسلوبه فأُسيء فهمه، وكم من كلمةٍ كانت بنية الإصلاح فانقلبت إلى إساءة بسبب ضعف البيان أو قلة الحكمة.
إن أثر الكلمة لا يُقاس بما تحمله من معلومات، بل بما تُحدثه من وعي. والناجح في ميدان الفكر أو الدعوة أو التعليم، هو من يتقن لغة العقول والقلوب معاً، فيجمع بين وضوح المعنى وجمال اللفظ، وبين عمق الفكرة وسهولة التناول.
فتحدث بما يُفهم لا بما يُدهش، واطلب الوصول لا الانبهار، وابحث عن التأثير لا التصفيق. وإذا جلست بين البسطاء فكن قريباً من واقعهم، وإذا جلست بين الأدباء فكن على قدر لغتهم، وإذا خاطبت الجميع فاختر الكلمة التي تمس القلب قبل الأذن.
فالكلمة الحكيمة كالماء العذب، تشربها الأرواح على قدر ظمئها، ولكنها لا تُروى إلا حين تُقدَّم في إناءٍ يناسبها.

*بقلم/محمد عمر حسين المرحبي*

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى