حينما يصافح السرد الألم
حينما يصافح السرد الألم
السرد حين يقترب من الألم لا يكتفي بوصفه، بل يلاطفه ويهدهده ويحاوره، لأن الألم ليس حدثًا جسديًا فحسب، بل تجربة وجودية تبحث عن معنى. وحين ترتدي اللغةُ ثوبَ الراوي، تصنع من الألم شكلًا يمكن الإمساك به.
فتشخيص الألم وتحويله يعني إخراجه من الغموض إلى الوضوح، ومن الداخل إلى الخارج. تصبح المعاناة قصةً، كأنها لا تمت بصلة إلى الكاتب، وكأنها لم تكن قدره. فيُلبس الألم أسماءً وصورًا ومشاهد يمكن ترويضها عبر اللغة.
ولذلك نجد كثيرًا من المبدعين يتحدثون عن الكتابة كفعل تنفيس أو تطهير، أشبه بما وصفه أرسطو بـ التطهير التراجيدي، حين يتحرر الإنسان من الانفعال لأنه عاشه فنيًا.
فالسرد لا يكتفي بالبوح، بل يعيد ترتيب الفوضى الداخلية. حين نكتب، نصبح رواة لتجاربنا لا ضحاياها. نتحكم بالزمن، ونشاغب الأمكنة، ونختار البداية والنهاية، ونوزع الضوء على البقع المظلمة.
في تلك اللحظة يتحول الألم إلى معرفة، والمعرفة إلى شفاء رمزي، فتضع الكتابة بيننا وبين الجرح مسافة آمنة، نراه دون أن يبتلعنا.
ولهذا كان الأدب دائمًا أقرب إلى الطب النفسي منه إلى الترف الجمالي. فرويد نفسه قال إن الأدب سبق التحليل النفسي في فهم النفس.
فالقصة التي تُروى بصدق قد لا تُنهي الألم، لكنها تمنحه صوتًا، والوجع الذي له صوت لا يظل مجهولًا ولا بلا جدوى.
وهكذا، بدل أن يبكي الكاتب بصوت عالٍ، يتأمل دموعه الباردة وهي تنسكب حرفًا متحركًا — وربما نقول تجاوزًا: فعلًا راديكاليًا.
وهذه إحدى اللحظات الخالدة التي يتصافح فيها الأدب وعلم النفس بأنامل الكتابة، حيث يتحول الوجع إلى وعي. فالسرد لا يزيل الألم، لكنه يعلّمنا الإنصات له، كما لو كان معلمًا قاسيًا يخفي خلف صمته درسًا عن الإنسان.
ومن هنا تبدأ الكتابة في أداء دورها الحقيقي: أن تُضيء ما لا يمكن احتماله، حتى نستطيع النظر إليه دون أن نحترق.
وفي السرد العلاجي يلتقي الأدب بالكوتشنج
كما ألتقى سابقا مع علم النفس
ففي المساحة الفاصلة بين الأدب والعلاج، تتفتح أجمل الحقول الفكرية التي يمكن للكاتب أو الكوتش أن يتجول فيها. فكل سرد هو نوع من إعادة كتابة الذات، وكل إصغاء جيد لقصة الآخر هو فعل شفاء.
وحين نتحدث عن سرد الشفاء، فنحن نعني عملية تحويل الألم إلى وعي من خلال الحكاية. إنها ليست كتابةً عشوائية، بل بناءٌ إنساني متدرّج يشبه مراحل التعافي نفسها.
الاعتراف بالألم لا تبريره هو الخطوة الأولى. أن تُقرّ بالإحساس بالوجع الذي يستحق أن يُروى، لا لتبرره بل لتفهمه. هنا تتحول الكتابة من إنكار إلى وعي، كأن اللغة — صوت الكتابة — مصباح صغير يسلّط ضوءه على النقاط المظلمة في النفس.
السرد العلاجي يتغلغل في الكاتب والقارئ معًا. فحين يمنح الكاتبُ الألمَ اسمًا، يصبح الألم صديقًا، ويتقلص الخوف منه.
الفقد، الخيانة، العجز، الذنب — كلها مفردات تجعل الوجع مفهومًا وقابلًا للتحليل. يتحول الشعور الخام إلى استعارة أو تورية، فتغدو جملة “أنا موجوع” مثل: كنت شجرةً بتر الحطّاب ظلها تحت ظهيرةٍ ملتهبة، فيصفق الألم بدلًا من أن يُسقط صاحبه.
وحين يبدأ الكاتب بمحاورة ألمه، يصبح الراوي لا الضحية. يفهم لماذا حدث ما حدث، ويعيد المعنى نحو مسار أكثر وعيًا ونضجًا.
ثم يتشارك قصته مع الآخرين — في كتاب، أو جلسة كوتشنج، أو حتى حوارٍ بسيط — فيتحول الألم إلى جسر تواصل إنساني يزرع بذور التعاطف.
وهنا يتحرر الكاتب من أسر قصته، ويصبح سيدها.
فمن يكتب ألمه جيدًا، يضعه في الماضي دون أن يفقد أثره.
ومن يقرأ الألم بوعي، يتعلم كيف يعيد صياغة حياته بلغة الرحمة لا العقاب، وبالتعاطف لا اللوم ! وبالتماس العذر لابتسليط السياط .
فاطمة سعد الغامدي

يا لجمال هذا السرد الذي لا يكتفي أن يُقرأ، بل يُحسّ ويُتأمّل ، كأنّكِ فتحتِ بابًا سرّيًا بين الأدب والوعي، حيث يتحوّل الألم من خصمٍ إلى معلم، ومن وجعٍ إلى معنى.
نصّكِ يفيض نضجًا، وعمقه يذكّرنا بأن الكتابة ليست هروبًا من الوجع، بل اقترابًا منه بحكمة من يبحث عن ذاته بين الرماد.
لقد منحتِ اللغةَ دورها الحقيقي: أن تكون مرآة للإنسان في لحظات ضعفه وقوّته معًا، وأن تجعل من كلّ جرحٍ حكاية، ومن كلّ حكايةٍ خلاصًا رمزيًا.
هذا النص ليس تأمّلًا في السرد العلاجي فحسب، بل ممارسة فعلية له…
كتبتِ الألمَ كما يُكتب الضوء في نهاية النفق، فأنرتِ به مساحةً من الإدراك لا يصلها إلا من جرّب الكتابة كفعل شفاء.
رائعٌ أ.فاطمة ، عمقكِ يليق بقلوبٍ تتقن الإصغاء لما وراء الكلمة
والله عليك أ. رحمة
وعلى اضافتك الواعية
وحرفك السيال
أسعدني وجودك
وماذا عن الآلام التي لا نستطيع أن نرويها😔
أروها وكأنها لا تعنيك .
بل تعني صديقك المهاجر .
شكرا لتعليقك .
الألم لغة الروح وطاقة البوح والكتابة نبضها وحياتها
أحسنت وأجدت فيما كتبت ..
الكاتب يتنفس الألم في كل شهقة وزفرة يخرجه من قلبه لو خروج مؤقت يخفف عنه حزنه ويذهب قلقه ويشعره أن صوته مسموع ، أكتب أقراء ماتكتبه ستجد أنك شعرت ببعض الراحة فقد اخرجت جزء من أسرار قلبك وبعضاً من ألمك اختر الكتابة كصديق لا يخذلك
شكري وامتناني لهذا الحضور المثمر
نعم الكتابة صديق أمين
كتبتِ بدقة ما يجول في خاطري .. ربي يسعد قلبك يا كاتبتنا العظيمة
شكرا لحضورك المتدفق د. ظافرة