كُتاب الرأي
يوم المعلم: حين يكون الأب هو المعلم الأول
يوم المعلم: حين يكون الأب هو المعلم الأول
باسم سلامه القليطي
في يوم المعلم، هذا اليوم الذي تُضاء فيه القلوب بالعرفان وتُرفع فيه القبعات احتراما لكل يدٍ غرست بذرة علم، أجدني أعود إلى معلمي الأول والأغلى. يوم المعلم بالنسبة لي ليس مجرد مناسبة عابرة تُكتب فيها عبارات الشكر وتُوزع فيها الورود، بل هو استدعاء صادق لذاكرة ممتدة إلى بدايات الطفولة، إلى أول يد أمسكت بيدي لتعلّمني الحرف، وأول صوتٍ وجّهني إلى طريق الكتاب.
قد يظن البعض أنني ألجأ إلى المجاز حين أصف أبي بمعلمي الأول، لكن الحقيقة أنه كان كذلك بالفعل. أبي حفظه الله، لم يكتفِ بدوره الطبيعي كأب، بل حمل على عاتقه رسالة المعلم في البيت كما في المدرسة الابتدائية التي درستُ فيها. كنت واحدا من طلابه، وكنت أيضا ابنه، وتلك الثنائية صنعت في نفسي أثرا لا يزول. فبين دفاتر المدرسة وأحاديث البيت، كنت أجد المعلم ذاته، الصبور الحريص، الذي يرى أن غرس المعرفة في القلب لا يقل أهمية عن غرس القيم في السلوك.
ولعل ما زاد هذه التجربة عمقا أنني أنتمي إلى قبيلة كثير من رجالها ونسائها معلمون ومعلمات. كأن التعليم يجري في الدم، وكأن الرسالة التربوية امتداد طبيعي لمسيرة الأجداد. كنا وما زلنا نفخر بأننا نُسهم في صناعة الأجيال ونحمل شعلة العلم جيلا بعد جيل. لكن معلمي الأول، أبي، كان بالنسبة لي الوجه الأكثر وضوحا لهذه الرسالة، المثال الذي جعلني أرى في التعليم رسالة حياة لا مهنة عابرة.
من بين ما غرسه الوالد في نفسي شغف القراءة والبحث. كان يحرص على أن يرافقني إلى المكتبات المحيطة بالمسجد النبوي الشريف، تلك المكتبات الصغيرة التي تفوح منها رائحة الورق والحبر، أو إلى باعة الكتب المتجولين الذين يعرضون عناوينهم على الأرصفة. لم يكن يرى في الكتاب مجرد أوراق، بل حياة جديدة تُفتح في كل صفحة. لذلك كان يشجعني على اقتناء القصص وشراء الكتب حتى لو لم أكن قد أنهيت ما بيدي. لقد أراد أن يربيني على أن المعرفة لا حدود لها، وأن الكتاب خير جليس مهما تغيّرت ملامح الحياة.
وما زلت أذكر كيف كان يحفزني على حضور الدورات التدريبية لكبار المدربين، حتى وإن كانت تكلفتها مرتفعة. لم يكن يرى في المال عائقا أمام طلب العلم، بل كان يردد أن “العلم لا يُقدّر بثمن”. كان يدفع قيمة تلك الدورات عن طيب خاطر، ويجلس بعدها يستمع لي وأنا أروي له ما تعلمت وكأنه هو الطالب وأنا المعلم. لقد علّمني بهذا السلوك أن الاستثمار الحقيقي ليس في العقارات أو الأموال، بل في عقل الإنسان وروحه.
وفي يوم المعلم هذا، أجد أن أعظم كلمة شكر أكتبها ليست لمدرسة أو جامعة، بل لأبي، معلمي الأول، الأستاذ: سلامه محمد ناصر القليطي. أشكرك على ما غرست من حب للعلم، وما بذلت من جهد وصبر، وما قدمت من وقت ومال وإخلاص. أشكرك لأنك لم ترَ فيَّ مجرد ابن، بل رأيت طالبا يستحق أن يُغرس فيه الخير. وما أنا اليوم إلا حسنة من حسناتك، وثمرة من غرسك، وما خطوتي إلا امتداد لخطاك. فجزاك الله خيرا، وبارك في عمرك وعلمك، وجعل كل حرف علّمته لطلابك على مدى عقود شاهدا لك يوم تلقاه.
وأنا أُباهي فيك أنكَ والدي فمن الذي سيلومُ حين أُباهي
