عبد العزيز.. التَّقِيُّ، النَّقِيُّ الوَرِعُ

اللواء الركن م. الدكتور
بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
عبد العزيز.. التَّقِيُّ، النَّقِيُّ الوَرِعُ
صحيح، كتب المؤرخون والمهتمون كثيراً عن المؤسس، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، فوصفوا شجاعته وإقدامه وصبره وثباته، وعزمه وحزمه وحسمه، وصراحته وإخلاصه، وكرمه وسخاءه، ومروءته وشهامته، وسماحته وعطفه، وعدله ووفاءه لرسالة أسرته، وحرصه على مصلحة شعبه، وخير الأمتين العربية والإسلامية، وسلام العالم وأمنه واطمئنانه واستقراره وسعادته، وفكره العسكري الفطري المتقدِّم، الذي أذهل حتى جهابذة العلوم العسكرية، في أرقى المدارس العسكرية في العالم، من ساند هيرست إلى وست بوينت، وعدَّدوا تضحياته وجهده وجهاده وكفاحه، من أجل تأسيس هذا الكيان الشامخ الرَّاسخ، وخلَّدوا آثاره، وأظهروا مفاخره وصفاته.
أجل، تحدَّث المؤرخون والمهتمون عن المؤسس بطلاً فذَّاً، وقائداً هماماً فريداً، سعى لاستعادة ملك آبائه وأجداده، فناله بعون الله وتوفيقه، ثم وطَّد بعزمه أركانه، وعمل بجد حتى أعلى بنيانه ورفع شأنه؛ إلا أنهم لم يتعرضوا لسر عظمته وحقيقة أمره، فلم يدركوا ما تنطوي عليه نفسه الكريمة من إيمان وتقوى وصفاء ونقاء وورَع، ومخافة لله عزَّ و جلَّ في السِّرِّ والعلن، كانت السبب المباشر في كل ما تم على يده الكريمة من أعمال عظيمة، بعد عون الله سبحانه وتعالى، وما حظيت به بلادنا في عهده السعيد من تقدم وهناء وأمن وأمان واطمئنان واستقرار، ووحدة اجتماعية فريدة، ألَّفت القلوب، قبل أن توحِّد الجغرافيا، كما يؤكد دوماً خادم الحرمين الشريفين، سيّدي الوالد المكرم، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، مستودع تاريخنا وأمين إرثنا الحضاري الثقافي، شبيه عبد العزيز خَلقاً وخُلقاً، قائد مسيرة خيرنا القاصدة اليوم على درب المؤسس.
تقوى الله والثقة في نصره:
وعليه رأيت اليوم أن يكون مقالي هذا بمناسبة يومنا الوطني الخامس والتسعين، الخالد المشرق في جبين التاريخ، الذي يوافق يوم الثلاثاء، الثالث والعشرين من شهر سبتمبر هذا، عن عبد العزيز آل سعود.. التَّقي النَّقي الوَرِع، المتوكل على الودود، الواثق في نصره وتأييده، الذي سما وما كبا، وأضاء وما خبا، آية وفاء صادق، وإخلاص دافق، واعتراف بالفضل لصاحب الفضل، وحمد للجميل. فلا غرو إذاً أن يؤسس بطل مثله، ملأت عبقريته الجزيرة العربية بإيمانها بالله عدلاً وهيبة ووحدة كانت بعيدة المنال، وطناً قارة، غدا اليوم دوحة ظليلة، أصولها ثابتة وفروعها نابتة، تولى غرسها المؤسس، ثم تعهدها من بعده على دربه أبناؤه الكرام البررة، فواصلوا رعايتها، حتى آتت أكلها ثمراً يانعاً طيِّباً شهياً، وتعاظم خيرها، وامتد ظلها الوارف الظليل فتفيأ به الجميع.
صحيح، كلما تم ذكر المُلْك، فأول ما يتبادر إلى الذهن، تلك الهالة الكبيرة التي تمثل العظمة والكبرياء، والجبروت والسلطان، وغير هذا من مظاهر خلابة وأبهة زائفة؛ غير أن الملك عبد العزيز كان بعيداً كل البعد عن أبهة المُلْك وعظمته، كما يؤكد أمين الريحاني عندما تشرَّف بلقاء المؤسس لأول مرة في العقير: (لم أجد أبهة الملوك وفخفخة السلطان؟ إنك لا تجدها في نجد وسلطانها، بل إن أول ما يملكك منه ابتسامته التي هي مغناطيس القلوب).
أجل، كان المؤسس رجلاً طيِّب النَّفْس، كريم الخلق، نقي السريرة، لا يكره شيئاً مثلما يكره الكبرياء، ولا يمقت شيئاً مثلما يمقت العظمة. عرف ربَّه حق معرفة، فتجرَّد من كل حول وطول، وأسلم جميع شأنه لله ربِّ العالمين، وتوكل عليه حق توكل؛ وإلا فكيف لرجل أن يحقق هذا الإنجاز المدهش الذي تمثَّل اليوم في أعظم دولة عرفتها شبه الجزيرة العربية بعد دولة الخلافة الراشدة، ببداية كانت مائتي وثلاثين بندقية، وأربعين ذلولاً، وشيء قليل من زاد، منحه إياها مبارك الصباح، شيخ الكويت آنئذٍ، عندما طلب عبد العزيز مساعدته لتحقيق أمله في استعادة ملك آبائه وأجداده في نجد.. تلك هي كانت كل عدَّة عبد العزيز وعتاده لبداية رحلة المجد التَّليد، إضافة إلى ستين رجلاً فقط، كانوا يمثلون كل جيشه المغوار؛ مع أن مبارك الصباح كان يسخر من طموح عبد العزيز في قرارة نفسه، إلا أنه كره أن يصدمه في أمله.
وعندما أسرَّ المؤسس بالخبر إلى رفاقه الروَّاد، قالوا: (ما ذا يفيدنا هذا العتاد البسيط أمام قوة ابن رشيد)؟. فتأتيهم إجابة الرجل المؤمن المتوكل على ربِّه، الواثق في نصره: (إذا كنَّا نعتقد أن النصر بالعدِّة والعدد، فيجب ألا نخطو خطوة واحدة في هذا السبيل). فما كان منهم إلا أن بادروه بصوت واحد: (هيَّا بنا إلى حيث شئت، والله معنا).
الإيمان والتَّوكل:
وعلى كل حال، لن أحدثكم اليوم عن ملحمة الرياض، فجر الخامس من شوال 1319، الموافق للخامس عشر من يناير 1902؛ وفكر عبد العزيز العسكري الفطري المتقدِّم المذهل، الذي حقَّق بتوفيق الله، إنجازاً أقرب إلى الخيال من الحقيقة، بتلك المنحة المتواضعة، عجزت دول اليوم، وليست مجموعة أفراد أو دولة واحدة عن تحقيق مثيل له حتى في عصر الذكاء الاصطناعي، الذي وضع أرقى ما توصل إليه الإنسان من معرفة في خدمته.
أجل، أقول: لن أحدثكم عن ملحمة الرياض الشهيرة، بل أحدثكم عن قائدها الملهم وبطلها المؤمن المتوكل على خالقه، الذي قام في الثلث الأخير من الليل بعد أن استقر ورجاله في عقر دار خصمه عجلان، فتوضأ ثم توجَّه إلى ربِّه بالدعاء، منيباً إليه، راجياً أن يمده بنصره وتأييده. ليس هذا فحسب، بل صلى بهم الصبح جماعة في المكان نفسه، قبيل بداية الملحمة، مع أنه كان يدرك يقيناً أن مجرد حركة بسيطة من أي شخص من جماعة عجلان، يمكن أن تورده ورجاله المهالك، فيقضي عليه عجلان.. أقول في مثل ذلك الموقف العصيب، الذي رُبَّما يدفع قلوب البعض للقفز من صدور أصحابها من شدة التوجس والرعب، في مثل ذلك الموقف، يتوضأ عبد العزيز في ثبات أشبه ما يكون بثبات طويق، ويدعو خالقه في تؤدة،ثم يصلي الصبح في جماعة صلاة جهرية رُبَّما توقظ حتى الغارق في النوم، غير أن النَّفْس عندما تمتلئ بالإيمان لدرجة التشبع، لا تهاب شيئاً، ولا توجل مهما ادلهمت الخطوب حولها.
وفاءٌ.. أوفى من الوفاء:
أجل، لن أحدثكم اليوم عن ذكاء عبد العزيز وخداعه العسكري الفطري، واستدراجه ابن رشيد، خصمه العنيد، ليواجهه في الدَّلم، ولن أحدثكم عن فزعة عبد العزيز لابن صباح ضد قبائل المنتفق بقيادة سعدون باشا، بل أحدثكم عن وفاء عبد العزيز، الأوفى من الوفاء، الذي دفعه للقتال إلى جانب ابن صباح، مع عدم قناعته بجدوى القتال، إذ نصح ابن صباح بحل الخلاف دون إراقة دماء، لقناعته أن الحرب خاسرة لا محالة، وهنا تتجلى عبقرية عبد العزيز العسكرية الفطرية، ونظرته الاستشرافية، غير أن ابن صباح رفض وأصر على القتال، فما كان من عبد العزيز إلا أن ترك شؤون بلاده مضحِّياً بنفسه وجيشه، وفاءً لمضيفه ومناصره بالأمس القريب، شيخ الكويت، مع إدراكه لسخريته منه يوم عزم عبد العزيز على استعادة ملك آبائه وأجداده.
ويستدعي هذا إلى الذاكرة تلك المقولة التاريخية الشهيرة للملك فهد، أحد أبناء عبد العزيز وتلاميذه النجباء، للعراقيين الذين ظنُّوا أنهم بإمكانهم خداع رجل كالفهد لابتلاع الكويت يوم اجتاحها صدام، محاولين التأكيد أن الأمر لا يهدد أمن السعودية. وفي الحال، دون أدنى تفكير، جاءتهم إجابة الفهد كالصاروخ: (لا يوجد شيء اسمه الكويت، وشيء اسمه السعودية.. كلنا واحد، نعيش معاً أو نموت معاً).. فكانت تلك هي الشرارة التي حرَّرت الكويت من عبث صدام.
العفَّة والوَرَع:
أجل، لن أحدثكم عن خطة عبد العزيز الحربية التي تمكَّن بها، بعد عون الله وتوفيقه، من استرداد الإحساء وطرد متصرف العثمانيين منها، بل أحدثكم عن المؤسس المؤمن التَّقي النَّقي الوَرِع، الشهم الكريم العفيف، الذي صلى بجنوده العشاء ثم خطب فيهم: (يا رجال التوحيد، إننا سنهاجم الترك الليلة، ولأننا واثقون بنصر الله، فعندما تبلغوا الإحساء، حاربوا من حاربكم، ووالوا من والاكم. وحذار أن تدخلوا البيوت، أو تعتدوا على النساء والأطفال).
وصحيح، ليس ثمَّة منطق للمقارنة بين المؤسس وبين كثير من (زعماء) العالم اليوم، غير أنني أُذَكِّر الناس هنا بما فعلته دولة الاحتلال الصهيوني، وما تزال تمارسه، من إبادة جماعية للأشقاء الفلسطينيين في غزة، لم تستثنِ طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً، بل لم يسلم منها حتى الحيوان والحجر والشجر، إضافة إلى ما فعله أتباع المدعو حميدتي في السودان الشقيق من بقر للبطون وقتل عشوائي للنساء والأطفال والمواطنين العُزَّل بالآلاف، وطردهم من منازلهم، وانتهاك أعراضهم وسلبهم ممتلكاتهم، وتسميم مياه الشرب، ومنع الغذاء والدواء عنهم، واحتجازهم دون وجه حق في ظروف قاسية، وتدمير المستشفيات والجامعات والمتاحف وكل البنية التحتية حيثما حلَّوا، في وحشية أخجلت حتى إبليس، لا أعرف لها مثيلاً في التاريخ الحديث، فيما ظل العالم (الأول) الذي يدَّعي العدالة والسلام والحرية وحقوق الإنسان متفرجاً، بل للأسف الشديد، ثبت تورطه في كل هذا الجرم الشنيع في حق الإنسانية.
فأين هؤلاء من منهج عبد العزيز الذي يلتزم بنهج معلِّم البشرية، سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، في وصيته لأصحابه عند كل قتال للمشركين بعدم الإفساد في الأرض، وعدم التعرض للأطفال والنساء والشيوخ، وعدم الحرق أو التعذيب بالنار، وعدم قطع النخيل أو هدم البيوت، ويحضهم على الوفاء بالوعد والعهد، بل كان صلى الله عليه وسلم يوصيهم حتى بالإحسان في القتل وينهاهم عن التمثيل بالقتلى.
الشهامة والمروءة:
أجل، لن أحدثكم عن حرب عبد العزيز لاسترداد الإحساء، بل أحدثكم عن خلق عبد العزيز الرفيع، وشهامته ومروءته، ونفسه الكريمة التي تأبى الذل والإهانة والشماتة والانتقام حتى للأعداء، فعندما نصره الله ومكَّنه من أعدائه، سمح للجنود الأتراك باصطحاب جميع معداتهم الحربية ومؤنهم وسلاحهم معهم، في مكرمة تُعَدُّ الأولى من نوعها في تاريخ الحروب قديماً وحديثاً، مخاطباً متصرف الإحساء: (نحن نُقَدِّر للجندي العثماني بسالته، ونُجِل أنفسنا عن إهانته بنزع سلاحه منه)، بل أكثر من هذا: أرسل عبد العزيز جنوده يرافقونهم لحمايتهم حتى وصلوا العقير بسلام. وحتى عندما نكث هؤلاء العهد، محاولين إعادة الكرة مرة أخرى، وتغلب عليهم عبد العزيز، عفا عن أسراهم وأبلغهم مأمنهم.
قلت: لن أحدثكم عن معارك عبد العزيز الحربية، وخططه الإستراتيجية، وشجاعته وإقدامه، بل أحدثكم عن خلقه الرفيع، الذي يمنع جنوده من مطاردة الأعداء بعد تحقيق النصر بفضل الله وتوفيقه: (حسبنا ما أحرزنا من نصر بفضل الله وحسن توفيقه، علينا أن نعود إلى بلادنا لئلا نكون من المعتدين)، فمع أنه يُعِدُّ للأمر عدَّته، إلا أنه يعزي الفضل دوماً لصاحب الفضل، الله سبحانه وتعالى، ثم تأنف نفسه الكريمة من الاعتداء، مكتفياً برد الظلم عن شعبه.
الصفاء والنقاء:
أجل، لن أحدثكم عن معارك عبد العزيز الحربية، غير أنني أحدثكم عن سلوكه التَّقي النَّقي الوَرِع، الذي يكرم الخصوم ويقربهم ويجعلهم من بطانته ورجال حاشيته، وربَّما صاهرهم، بل قد يعينهم أمراءً على قومهم، ثم يوصيهم بتقوى الله وتنفيذ أحكامه. ولأنه تقيٌّ نقيٌّ وَرِع، يحاول عبد العزيز جاهداً حل المشاكل مع الخصوم وديَّاً، وعدم الدخول في حروب قد تزهق كثيراً من الأرواح من الطرفين، حتى إذا تعنَّت الطرف الآخر، لجأ إلى الحصار قبل أن يضطر أخيراً للقتال.
ويصوِّر شاعره، أحمد إبراهيم الغزاوي، حلم عبد العزيز هذا وسماحة نفسه الكريمة، في رائعة طويلة، يقول فيها مخاطباً المؤسس:
وفي الحلم عمَّن صفحت دلائل
بأنك ملك مشفق راحم طيِّب
فبات لك الأعداء طراً أحبَّة
وفيك استوى جهر الرعية والغيب
الوفاء بالوعود:
أجل، هذا هو عبد العزيز التَّقي النَّقي الوَرِع، يخاطب أهل مكة المكرمة عندما دخلها بعد ضم الحجاز: (عليكم يا أهل مكة وأتباعها، من أشراف وأهل البلد عموماً والمجاورين والملتجئين من جميع الأقطار، عهد الله وميثاقه على أموالكم ودمائكم، وأن تحرموا بحرمة هذا البيت كما حرَّمه الله على لسانَي خليليه إبراهيم ومحمد، عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وأن لا نعاملكم بعمل تكرهونه، وأن لا يمضي فيكم دقيق أو جليل إلا بحكم مشروع، لا في عاجل الأمر ولا في آجله، وأن نبذل جدنا وجهدنا في ما يؤمن هذا الحرم الشريف وسكانه وطرقه للوافدين إليه، الذي جعله الله للناس مثابة وأمناً، وأن لا نولي عليكم من تكرهونه… إلخ). وقد أوفى عبد العزيز بما وعد، كما يجسده الغزاوي:
أمنٌ مكينٌ وظلٌ وارفٌ، وقرىً
والماء بين الفيافي الشسع مغمور
أعددت كل الذي يغدو الحجيج به
مرفَّهاً لا يضره فيه تكدير
***
يا مغذي السير للأوطان في عجلٍ
حدِّث ربوعك: إنَّ (الحج) ميسور
أجل، هذا هو عبد العزيز، الرجل الصالح، الذي يؤكد دوماً: (إن غاية قصدنا وما ندعو إليه، هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، ويسلم شرف العرب. ولهذا فنحن على استعداد تام أن نفدي بأنفسنا وبدمائنا وبكل ما نملك، كل ما يقوم به دِين الله، ويُحْمى به حرمه الشريف الذي أمر الله بتطهيره وتعظيمه). ويؤكد هذا الشاعر سليم أبو الإقبال اليعقوبي إذ يقول:
لنفسه لم يكن يوماً بمنتقمٍ
وإنما كان للإسلام منتقما
النَّفْس الكبيرة:
هذا هو عبد العزيز البطل الفذ، القائد الهمام، المسلم المؤمن العربي الإنسان، الذي يُعِدُّ للأمر عدَّته، ويلبس لكل حالة لبوسها، ويأخذ بالأسباب؛ ومع هذا يتجرد من كل حول وطول، فيعزي الأمر كله لله ربّ العالمين. لم يبطره نصر، ولم تكسره هزيمة أو خسارة، حتى إذا مكَّنه الله من خصومه، وردَّ الظلم عن شعبه، تعامل معهم بأخلاقه النبيلة، ومروءته الفريدة، وشهامته وكرمه ونبله، الذي لا يشبه أحداً غيره في عصره. فأكرمهم وأجزل لهم العطاء، وحفظ لهم مكانتهم في المجتمع، فولَّاهم على قومهم، أو جعلهم من أخلص بطانته وخاصته، بل ذهب أبعد من هذا فصاهرهم، في محاولة لتجاوز الأحقاد. ولأنه كما يقول دوماً: إنه يرى نفسه والداً لكل الشعب السعودي حيثما كانوا على اختلاف قبائلهم.
نعم، هذا هو عبد العزيز كما وصفه الريحاني: (كبير في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظرته، وفي ضربه الأرض بعصاه.. قائد لا يخشى أحداً من الناس، بل يفشي سرَّه، وما أشرف السِّر، سر رجل يعرف نفسه، ويثق بعد الله بها).. أجل، ذاك هو عبد العزيز، كما أبدع المؤرخون في وصفه وتبارى الشعراء المجيدون، دون أن يوفوه حقَّه علينا، إذ يقول الشاعر محمد العباسي البغدادي في وصفه:
ذاك عبد العزيز خير مليكٍ
سعد آل السعود بدر سماها
***
ذاك عندي أنقى الملوك خصالاً
ذاك عندي أبرَّها أتقاها
***
ذاك للعرب مفخرٌ وسلاحٌ
وهمام إذا دهاها دُهاها
تتباهى به المعالي وأكرم
بمليكٍ به العلى يتباها
والحقيقة الحديث ذو شجون كما يقولون، لكن مهما تحدثنا عن المؤسس الملك عبد العزيز البطل الفذ، المؤمن التَّقِي النَّقِي الوَرِع، نظل كما قال الغزاوي:
وما أنا في الثناء عليه إلا كمن أهدى إلى صبح شهابا
ويعبر الأمير طلال بن عبد العزيز عن هذا المعنى في وصفه لوالد الجميع المؤسس الملك عبد العزيز إذ يقول: (… لو اطَّلع الكُتَّاب والمؤرخون على ما في صدور الرواة والشيوخ الذين عاصروا الوالد من قصص، وسمعوا ما يتحدثون به من وقائع، وما يذكرون من قضايا عن البطل الفذ، لوجدوا أنهم لم يكتبوا عنه شيئاً، فعبد العزيز كان ظاهرة إنسانية سياسية عبقرية، ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية في العصر الحديث، كان زعيماً وقائداً محنَّكاً تُضْرب به الأمثال، وإن المرء ليحار عندما يتحدث عن عبد العزيز). ويؤيد هذا ما يؤكده قائد مسيرة عبد العزيز الظافرة اليوم، خادم الحرمين الشريفين، سيّدي الوالد المكرم، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أشبهنا بعبد العزيز وأعرفنا به وأشدُّنا تمسُّكاً بنهجه، إذ يقول: (مهما كتب المؤرخون عن الملك عبد العزيز، حتى إن كتبوا ألف كتاب أو ألفي كتاب، فلن يستطيعوا أن يوفوه حقَّه علينا).
على خطى عبد العزيز:
فالحمد لله رب العالمين على هذا الخير العميم والنعم التي تترى، ثم الشكر من بعد للمؤسس الذي أسَّس لنا هذا الوطن الفريد، الذي تشرئب إليه أعناق العالم كله، غربيه قبل شرقيه، وعلى ما خلَّفه لنا من أبناء مخلصين بررة، ساروا على نهجه، وحملوا رسالته بكل قوة واقتدار، وبنوا فوق الذي بنا، كما تمنى في حديثه مع الريحاني، وكما أكد ذلك الشاعر سليم أبو الإقبال اليعقوبي في رائعته التي تجاوزت المائة والخمسين بيتاً، التي تحدث فيها عن سجايا عبد العزيز وعدَّد إنجازاته، إذ يقول في وصف أبناء عبد العزيز الذي أحسن تربيتهم وتعليمهم وأعدهم لمواصلة مسيرة خيرنا القاصدة إلى الأبد إن شاء الله، لأننا أُمَّة صاحبة رسالة:
أبناؤه مثله بأساً وليس لهم
نِدٌ إذا ما أثاروا الأينق الرسما
البِيْضُ تنبئ والسمر اللدان، فسل
إن شئت عنهم أولاء السمر والخدما
ومن كأبنائه الآساد، إنهم
إن قامت الحرب كانوا شهبها الرجما
تخلقوا بالتقى، بالدين مذ خلقوا
بالحسنيات، بما سادوا به الأمما
***
في كل يومٍ لهم في الطيبات يدٌ
تزجي إلى الظامئين العارض العرما
***
هم الأكارم في دِينٍ وفي أدبٍ
غض وللأدب الموهوب من كرما
هم الألى كأبيهم في سياسته
إن يبتغوا الحرب أو إن يبتغوا السلما
***
فليبق في عظماء الشرق ذكرهم
ولتقف إثرهم في المشرق العظما
وبعد:
ليس هذا حديث عواطف، بل مجرد طرف من حقائق دامغة يؤكدها الواقع الذي نعيشه اليوم، في هذا العهد الزَّاهر الميمون بقيادة خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، و ولي عهده القوي بالله الأمين، أخي العزيز الغالي، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، رئيس مجلس الوزراء، إذ تحوَّلت بلادنا إلى ورشة هائلة للعمل والانجاز والإبداع كما يصفها قائدنا إلى المكرمات سلمان الخير والحزم والعزم. ففي كل يوم تشرق الشمس على مشروع جديد لخدمة المواطن وراحته وتذليل كل ما يعتري حياته من صعاب؛ إضافة إلى أنها أصبحت رقماً صعباً في سياسة العالم واقتصاده، لا يمكن حتى للدول التي تدعي العظمة تجاوزها.
فكل عام قادتنا الأوفياء الكرام بخير، وشعبنا المخلص في سعادة ورفاه، وبلادنا العزيزة الغالية التي ليس مثلها في الدنيا بلاد، في أمن وأمان واطمئنان واستقرار، وتنمية وتقدم وازدهار.
كاتب رأي