الوظيفة والعبودية الحديثة

الوظيفة والعبودية الحديثة
علي محمد الماجد
في زمنٍ كان فيه العبيد يُكبلون بالسلاسل، جاء الحاضر ليُكبلنا بسلاسل أكثر أناقة: راتب شهري، مكتب مكيف، وقهوة مجانية في غرفة الاستراحة. نعم، أتحدث عن الوظيفة، تلك العبودية الحديثة، هكذا سماها أحد مدربي تطوير الذات، التي يسخر منها البعض ويدافع عنها آخرون، بينما الجميع – في قرارة نفسه – يحلم بيوم إجازة كما يحلم السجين بالعفو.
يقولون: “الوظيفة عبودية القرن العشرين!”، وهم يتأففون من جلسات التقييم السنوي، واجتماعات “التيم” التي لا تنتهي، وتلك الإيميلات التي تبدأ بـ “آمل أن تكون بخير”، لكنها في الحقيقة تعني: “لديك مهلة 24 ساعة لإنهاء هذا العمل أو سأجعل حياتك جحيما”. ولكن لنكن منصفين، هل الوظيفة حقا عبودية؟ أم أن السخرية منها مجرد هروب من واقع لا مفر منه؟
لنبدأ بالساخرين أنفسهم. هؤلاء الذين ينشرون منشورات على “إكس” و”تيك توك” عن “الحرية المالية” و”العمل الحر”، بينما هم يتسولون إعجابات على الإنترنت ليشعروا أنهم فعلا يصنعون ثورة. يقولون لك: “لماذا أعمل من ٧ إلى ٢ لأجل راتب زهيد؟”، وهم يسوقون أن تتحول أنت إلى المدير وتوظف آخرين. هنا هذا المحترم ناقض نفسه؛ فمن جهة ينتقد الوظيفة، ومن جهة أخرى يعتمد عليها. دون موظفين تعتمد عليهم يا عزيزي، فمصير فكرتك ومشروعك الفشل! لأنك بكل بساطة قتلت الولاء الذي يجب أن يتحلى به موظفوك.
الوظيفة، يا سادة، ليست عبودية بالمعنى الحرفي. إنها صفقة. أنت تبيع وقتك وجهدك لشركة أو مؤسسة لتحصل على راتب يسمح لك بشراء ما تحب وترغب، مثلا حذاء رياضي جديد لا تستخدمه أو حقيبة غالية لا تحتاجينها، أو دفع إيجار شقة تظل فيها نائما معظم الوقت. قد تكره وظيفتك، ولكن براتبها تشتري ما تحب وتقضي إجازة حيث تحب.
المشكلة ليست في الوظيفة، بل في توقعاتنا. كنا نظن أننا سنصبح رواد أعمال عندما كنا نلعب بـ “بلاي ستيشن” في طفولتنا، ثم اكتشفنا أن العالم لا يدفع لك لأنك “موهوب”، بل لأنك تنجز تقريرا قبل الموعد النهائي.
لكن دعونا لا ننكر، هناك لحظات تجعل الوظيفة تبدو كسجن من الدرجة الأولى. تلك اللحظة التي يطلب فيها مديرك منك إعادة صياغة “بريسنتيشن” للمرة الثالثة عشرة لأن “حجم الخط غير مناسب”، أو عندما يأتيك إيميل في الساعة 11 مساء بعنوان “عاجل: يرجى الرد فورا”. عندها، نعم، قد تشعر أنك عبد في سفينة تجارية، لكن بدلا من الأغلال، هناك لابتوب وكوب قهوة بارد تحت جهاز تكييف.
لو كانت الوظيفة عبودية كما يقولون، فهي على الأقل عبودية قانونية: بعقد عمل، بإجازة سنوية مدفوعة، بتأمين طبي. والتأمين الصحي لك ولوالديك وأبنائك. يا لها من قيود ناعمة! أي عبد في التاريخ كان يأخذ علاوة سنوية أو يتلقى مكافأة نهاية خدمة؟!
قد تكون الوظيفة قيدا، لكنها القيد الذي يربطك إلى حياة منظمة، وليس إلى وهم الحرية. وإياك أن تصدق مزاعم هؤلاء “الأحرار” أنهم قادرون على دفع الإيجار بملصقات التحفيز والفيديوهات القصيرة عن “الثراء في 30 يومًا”، فهم بائعو وهم. تبقى الوظيفة، براتبها ومكتبها ومواعيدها، عبودية ذهبية… لكنها على الأقل عبودية تدفع فواتير الإنترنت الذي يكتبون عليه سخريتهم.
والآن، دعني أوجه كلمة للساخرين: إذا كنت تعتقد أن ترك الوظيفة سيجعلك حرا، ففكر مرة أخرى. العمل الحر ليس نزهة في حديقة. هو أيضًا وظيفة، لكن بدلا من مدير واحد، لديك عشرة عملاء يطالبونك بتعديلات على شعار صممته لهم في منتصف الليل. زبائن لا يعجبهم العجب ومستعدون للتخلي عنك عند رؤية تخفيض كبير، غشاشون عالميون يجعلون بضاعتهم تبدو أعلى جودة وتُصدَّر من إيطاليا أو فرنسا بينما هي تُصنع في شقة صغيرة في تايلاند أو بنغلاديش. منافسة شرسة شديدة مع ذئاب لا تنام ولا ترحم.
شخصيا، عرفت أناسا خسروا كل مدخراتهم في مشاريع فاشلة: مصنع، أو مطعم، أو شركة مقاولات. الوظيفة مناسبة جدا لمن بدأ من الصفر، الصفر المطلق الحقيقي، وليس الصفر مع أصفار أخرى بجانب رقم على اليسار دفعه (بابي أو مامي). التجارة تحتاج من يفهم بها ويراقب ليلا نهارا، كي لا تعتمد على موظف يلتهم ثمرات تجارتك بينما أنت تتمتع بالحرية المزعومة! وتنتهي مفلسا أو – أسوأ – مسجونا.
الحرية؟ وهمٌ جميل نصوره ونحن نتصفح مواقع التواصل، ثم نعود للواقع عندما تصل فاتورة الكهرباء.
في النهاية، الوظيفة ليست عبودية، ولا هي الحرية المطلقة. إنها مجرد جزء من لعبة الحياة. تسخر منها؟ حسنا، لكن لا تنسَ أن السخرية لن تدفع فواتيرك.
كاتب رأي
أشكرك على تنوع مواضيعك، وطرح أغلب الأراء حول هذا العنوان.
.
أنا معجب بأسلوبك الراقي جدا.