التجربة الشعرية عند المرأة الشاعرة بين الأمس والانفتاح الراهن

التجربة الشعرية عند المرأة الشاعرة بين الأمس والانفتاح الراهن
د. سارة الأزوري
منذ زمن بعيد، والمرأة تحمل في قلبها نصًّا لم يُكتب بعد. كانت تكتفي بالصمت حينًا، وبالرمز حينًا آخر، كأنها تنتظر اللحظة التي يُسمح لصوتها أن يعلو بلا قيد. ومع التحولات والانفتاح الذي يعيشه المجتمع اليوم، بدا أن تلك اللحظة قد اقتربت… لكنها، في الحقيقة، لم تكتمل بعد.
المرأة الشاعرة ليست كغيرها من النساء؛ فهي حالة استثنائية تحمل سقفًا أعلى من المشاعر والأحاسيس. سقف يفيض بالرهافة والرقة. صحيح أن كل امرأة تملك مشاعر، لكن الشاعرة تنفرد بقدرة خاصة على رفع هذا السقف إلى ما يتجاوز المألوف.
هذا التميز يعود إلى أمرين أساسين:
• أولًا: أنها أنثى، والأنثى بطبيعتها عاطفتها جياشة، معطاءة، غزيرة؛ لأنها أم وأخت وزوجة.
• ثانيًا: أنها تمتلك لغة شعرية قادرة على الإفصاح عمّا يختلج في داخلها من معانٍ وأشواق.
أزمة المبدعة في السابق
حين نتتبع النصوص القديمة، نجد أن صوت الرجل كان هو المهيمن. هو من سُمح له أن يتغزل بالمرأة ويصرّح بشوقه، بينما غاب صوتها هي، رغم أنها كانت تمتلئ بالحنين والوجْد. قال الرجل:
• «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول»
• «لخولة أطلال ببرقة ثهمد»
• «إنا نحييك يا سلمى فيينا»
أما المرأة، فقد قُيّدت بقيود اجتماعية حالت دون أن تصرّح بمحبوبها. لم يكن ذلك عجزًا منها – أبدًا – بل ثقلًا فرضته الأعراف. وللهروب من هذا القيد، ارتدت بعض الشواعر رداء الذكورة في نصوصهن، كما قالت نزهون بنت القلاعي الغرناطية بجرأة لافتة:
إِن كنتُ في الخلقِ أُنثى
فإنّ شِعري مذكّر
وكثير من الشواعر السعوديات خرجن من رداء الأنوثة إلى خطاب الذكورة الذي يرين فيه – كما يقول الغذامي – علة وارتفاعًا وتسامياً وإبداعًا، بينما الأنوثة الإبداعية تدنٍ وضعف ونقص. ولهذا لجأن إلى الرثاء، باعتباره قناعًا يسمح لهنّ بأن يقلن ما لا يُقال مباشرة: عن الحنين، عن الحب، عن الأشواق التي لا تهدأ.
أزمة المبدعة في الحاضر
ومع موجة الانفتاح الثقافي، تغيّرت الصورة. لم يعد حضور المرأة في الثقافة حضورًا باهتًا أو عابرًا؛ بل صار جزءًا من المتن. نراها في الجامعات، في معارض الكتب الداخلية والدولية، في النوادي الأدبية، وحتى في الجمعيات المهنية التي كانت مغلقة يومًا ما.
ومع ذلك، لا أستطيع أن أجزم أن القيود انتهت. بعضها انكسر فعلًا، وبعضها ما زال حيًّا، يظهر حينًا في نظرة متحفّظة، وحينًا في تردّد داخلي يساور المرأة نفسها. كأنها لا تزال تسأل: هل الطريق مفتوح حقًا؟ وقد لمستُ هذا وأنا أعدّ معجم الشاعرات السعوديات؛ كثيرات فضّلن النشر بأسماء مستعارة، رغم أن الأفق صار أوسع.
وبرزت أزمة أخرى، مختلفة في شكلها: بعض المبدعات يعشن في جلباب الرجل. لا يبدأن خطواتهن إلا من ظلّه، ولا يُبدعن إلا بدفعه. فإذا ما نزع يده عنهن، انكشفت العلّة، وسقط القناع. وهنا تبدأ الحكاية: رجل يرى نفسه المتفضل الذي صنعها، وامرأة تكتشف – متأخرة – أنها لم تكن سوى صدى لصوته.
والأمر لا يخلو من رمزية أعمق. فبعض الرجال، وهو يعرف خواء بعض النساء من الموهبة، يصرّ على تلميع صورتهن وصقلها. لا حبًّا فيهن، بل ليحجب بريق امرأة أخرى يدرك تفوقها عليه. فيُخفي نورها خلف أضواء زائفة صنعها بيده. مفارقة جارحة… لكنها واقعية.
بين الماضي والحاضر
إذن، أزمة المبدعة قديمة وحديثة. اختلفت طبيعتها، ولم يختلف جوهرها:
• في الماضي، كانت أزمة صمت ومنع وقيد اجتماعي مباشر.
• أما اليوم، فهي أزمة اعتماد وارتهان، أو أزمة صراع مع التلميع الزائف والمقارنات المرهقة.
ورغم كل ذلك، لم يعد صوت المرأة خافتًا كما كان. على العكس، صار حاضرًا بقوة، وفرض نفسه في الساحة الثقافية، حتى غدا من الصعب تجاوزه أو تجاهله.
اليوم لم تعد معركة المرأة السعودية المبدعة معركة وجود كما كانت، بل معركة وعي أعمق وأشد تعقيدًا.
كيف تُقنع مجتمعها أن إبداعها ليس ترفًا عابرًا، بل ضرورة تُبقي الثقافة حيّة؟ وكيف تُقنع ذاتها أنها ليست ظلًّا ولا استثناءً، بل قاعدة أصيلة يُبنى عليها؟
معركتها لا تُخاض بالشعارات وحدها، بل بالنصوص التي تبقى، بالكلمات التي تعبر الزمن، وبالحضور الذي يفرض نفسه حتى في أكثر المنابر ضيقًا. وأنا شخصيًا رأيت ذلك: صوتٌ بدأ مترددًا، ثم تحوّل شيئًا فشيئًا إلى يقين يملأ القاعة.
إنها لا تنتظر أن يجيء أحد ليمنحها اعترافًا. ذلك الزمن انتهى. هي اليوم من تكتب اعترافها بيدها، وتوقّع حضورها بخطها الخاص، بكل ما فيه من ارتعاش أو ثبات. وهذه، إن جاز القول، أصدق صورة لمعركة الوعي.
كاتبة رأي