كُتاب الرأي

القدر الملعون

القدر الملعون

محمد الفريدي

حين تسمع عبارة “القدر المعلن”، العبارة التي صاغها أول مرة الصحفي الأميركي جون أوسوليفان سنة 1845 في مقالة شهيرة له، تجد أنها تعني أن للولايات المتحدة “قدرا معلنا” أن تتمدد عبر القارة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، وأن هذا التوسع حق إلهي وأمر حتمي لا مفر منه.

قد تظنها للوهلة الأولى فكرة روحية أو فلسفية، لكنها في الحقيقة أخطر من ذلك بكثير. هي عقيدة صاغها عقل السياسة الأميركية منذ القرن التاسع عشر واقتبسها من مقال جون أوسوليفان، عقيدة تزعم أن للولايات المتحدة رسالة إلهية مقدسة: أن تتمدد وتسيطر وتنشر قيمها بالقوة متى وأينما شاءت، وبهذا الشعار شُرِّد السكان الأصليون من أراضيهم، وابتُلِع نصف أراضي المكسيك، و أُرسلت الجيوش إلى ما وراء البحار لتفرض هيمنتها على الشعوب البعيدة عنها باسم الحرية.

ومنذ تلك اللحظة، تحولت العبارة من مجرد جملة في صحيفة إلى عقيدة سياسية، استُخدمت لتبرير تهجير السكان الأصليين، وضم تكساس، وشن الحرب على المكسيك وابتلاع أراضيها.

القدر المعلن ليس درسا تاريخيا من الماضي فحسب، بل هو مفتاح لفهم الحاضر أيضا. فواشنطن لم تتخلَّ عنه، بل أعادت تدويره في كل مرحلة تحت مسمّيات جديدة: تارة باسم نشر الديمقراطية، وتارة أخرى بالحرب على الإرهاب، وتارة تحت شعار النظام الدولي، وأخيرا في مقولة “أميركا أولا” التي رفعها ترامب وهو يستحضر مصطلح القدر المعلن في خطاب تنصيبه.

نحن أمام كذبة كبرى تُقدَّم للعالم على أنها مشيئة تاريخية وحقّ إلهي لأميركا، بينما هي في حقيقتها غطاء للاستعمار والهيمنة، وأداة لشرعنة النهب وتجميل وجه الإمبراطورية التي لا تعيش إلا بالحروب والتوسع.

الولايات المتحدة لم تُبنَ على الحرية كما تزعم، بل على أسطورة قذرة أطلقوا عليها اسم “القدر المعلن”. فمنذ القرن التاسع عشر وواشنطن ترفع هذه العقيدة كراية مقدسة، لتغطي بها مشروعها الدموي القائم على التوسع والهيمنة وسلب أراضي الآخرين.

لم يكن الأمر إيمانا ولا رسالة إنسانية، بل تبريرا للاستعمار صاغته عقلية مشبعة باللاهوت البروتستانتي والنزعة القومية المريضة، التي جعلت الأميركي يرى نفسه “شعبا مختارا” فوّضه الله ليقرر مصائر العالم، وجعل دماء الآخرين وقودا لمسيرته، وأوطانهم ساحات مباحة لتجارب أوهامه، فحوّل كلمة في مقالة كتبها صحفي في القرن التاسع عشر إلى سيف مسلّط على رقاب الشعوب، والدين إلى ذريعة، والتاريخ إلى مسرحية كُتبت فصولها بالدم والنار.

تحت هذا الغطاء الديني المزيف، شُرِّدت قبائل بأكملها من أراضيها في مجازر “درب الدموع”، وسُرِقت أراضي المكسيك، وتحولت الحرب إلى أداة لصناعة دولة قارية كبيرة ملطخة بالدم.

ولمن لا يعرف مجازر “درب الدموع”، فهي ليست مجرد حادثة تاريخية، بل فصول دمويّة من تاريخ أميركا التوسعي. ففي القرن التاسع عشر، أُجبر السكان الأصليون، الهنود الحمر، على ترك أراضيهم والسير لمسافات طويلة في ظروف قاسية، ومات آلاف منهم جوعا ومرضا وإرهاقا.

ولم تكن هذه الرحلة المأساوية مجرد نقل سكان من منطقة إلى أخرى، بل كانت ساحة لإرهاب منظّم وابتلاع أراضيهم بدم بارد، ومثال صارخ على الوجه الحقيقي لعقيدة “القدر المعلن”، التي لم تكن سوى غطاء للاستعمار والهيمنة.

اليوم، يُمارَس هذا المفهوم نفسه في غزة والضفة الغربية بالاتفاق مع إسرائيل لتهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم، مُعيدة بذلك مصطلح القدر المعلن الذي مارسته مع السكان الأصليين في أمريكا.

نفس العقلية التي حولت التاريخ إلى أداة للغزو، والدماء إلى طريق للهيمنة، لتبقى الشعوب دوما رهينة لمصالحها تحت ستار القدر المزعوم، تواصل اليوم استغلال قوتها وأموالها ونفوذها لتفرض إرادتها على الأمة العربية، وتكتب مصائرنا بدماء الأبرياء وأحلامنا المسلوبة.

هذا هو جوهر “القدر المعلن الأمريكي”: إبادة الشعوب الأصلية، وابتلاع أراضيها بالقوة، وتجميل استعمارها تحت شعار “المشيئة الإلهية”.

ومع نهاية القرن التاسع عشر، لم يشبع الأميركيون من القارة الأمريكية، بل خرجوا إلى ما وراء البحار ليفرضوا هيمنتهم على الفلبين وأميركا اللاتينية، مستخدمين نفس القناع: “تمدين الشعوب” و“نشر الحرية” .

لكن الحقيقة كانت واضحة: غزو دموي ونهب متواصل، وتحويل تلك الشعوب إلى أدوات لإرادتهم، باسم ديمقراطيتهم المزعومة.

ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لم يتوقف هذا الوهم عن إعادة إنتاج نفسه: مرة باسم “نشر الديمقراطية”، ومرة باسم “الحرب على الإرهاب”، واليوم باسم “النظام الدولي” و“الشرق الأوسط الجديد”.

كل العناوين تتغير، لكن الجوهر واحد: واشنطن تريد السيطرة على العالم بأكمله بعد أن سيطرت على نصفه، وتختبئ خلف قناع القدر المعلن.

حتى في عصرنا الحديث، عاد هذا المصطلح ليطلّ من أعلى منصة سياسية في العالم. ففي خطاب التنصيب عام 2017، لم يتردد دونالد ترامب في استدعاء “القدر المعلن” صراحة، وقدم نفسه كزعيم يقود “قدر أميركا الجديد” لإعادة عظمتها، وغرد على تويتر بصورة يرتدي فيها زي بابا الفاتيكان.

لكن الحقيقة أنه لم يقدّم شيئا جديدا: مجرد نسخة محدثة من العقيدة نفسها، حيث حوّل التوسع الجغرافي الأمريكي القديم إلى توسع اقتصادي وسياسي عالمي تحت شعار “أميركا أولا”.

ترامب لم يفعل سوى إعادة صياغة الأسطورة: أميركا هي الأمة المختارة فقط، ونجاحها قدر محتوم، ومخولة بفرض مصالحها ورؤيتها وإرادتها على الجميع. والفرق قديما وحديثا أن أدواتها اليوم لم تعد البنادق وحدها، بل تشمل العقوبات الاقتصادية، والابتزاز التجاري، والتحالفات العسكرية، والسيطرة على الإعلام والتكنولوجيا، ودعم ربيبتها إسرائيل بالأسلحة الفتاكة وبالفيتو اللعين.

من إبادة الهنود الحمر إلى غزو العراق وأفغانستان، ومن نهب المكسيك إلى ابتزاز الحلفاء وتدمير غزة ونهبها بحجة تحويلها إلى ريفيرا الشرق الأوسط، يظل “القدر المعلن” الوجه الحقيقي للسياسة الأميركية: مشروع هيمنة يتزيّن بالشعارات البراقة ليخفي جوهره القبيح.

أميركا لم تكن يوما رسول حرية وسلام، بل إمبراطورية ترى نفسها فوق البشر، وتتعامل مع العالم بفوقية وكأنه مسرح خاضع لـ“مشيئة تاريخية” اخترعتها لتبرير جشعها، وتواصل استغلال القوة والمال والضغط السياسي، وفرض إرادتها وابتزازها لمصالحها على حساب شعوب كاملة وحقوقها المسلوبة، باسم الديمقراطية المزعومة، وهذا “القدر المشؤوم”.

إن رفض هذه العقيدة ليس خيارا فكريا للشعوب، بل ضرورة أخلاقية وسياسية، لأن في كل مرة يُرفع فيها شعار “القدر المعلن”، يسقط في مكان ما دم بريء، ويُمحى وطن، ويُعاد إنتاج الاستعمار بوجه جديد، وما يسميه الأميركيون “قدرا”، ليس سوى استعمارا مقنّعا يتكرر عبر القرون.

وهذا القدر المعلن ليس قدرا، بل أكذوبة اخترعها العقل الأميركي لتبرير كل جرائمه: من الإبادة إلى الاحتلال، ومن سرقة الأرض إلى اغتيال الحقيقة وتدمير مدن بأكملها. وهي ليست رسالة سماوية، بل عقدة تفوق مريضة جعلت الولايات المتحدة تنصّب نفسها قاضيا وجلادا ومخلصا للعالم في آن واحد.

فحين يرفعون شعار “أميركا أولا”، فهم في الحقيقة يقولون: العالم كله بعد أميركا، أو تحت أقدامها، وحين يبررون الحروب بـ“نشر الديمقراطية”، فالديمقراطية عندهم لا تعني حرية الشعوب، بل إخضاعها لإملاءاتهم، وحين يتحدثون عن “النظام الدولي”، فالمقصود نظام أميركي بحت، يرسم الحدود، ويحدد الأعداء، ويقرر من يحق له العيش ومن يُحكم عليه بالموت أو المؤبد، وكل هذه الشعارات ليست سوى أقنعة لتغطية الهيمنة، وإخفاء وجهها المتوحش الذي تحكم به العالم وفق مصالحها فقط.

ترامب لم يكن سوى وجه فجّ لعقيدة قديمة، لكنه لم يكن استثناءً، فكل الرؤساء الأميركيين، القدماء والجدد، كانوا يحكمون بنفس العقلية: فرض الإرادة الأميركية على العالم، وتزيين الهيمنة بالشعارات الرنانة، بينما يظل الدم والبؤس طريقهم لتحقيق مصالحهم دون رحمة أو حساب، أو خوف يردعهم، ويستمرون في كتابة التاريخ باسم “قدرهم المعلن”، ويدفع الأبرياء في العالم الثمن.

كل رئيس أميركي، مهما اختلف خطابه، يكرر الدرس ذاته: أميركا فوق الجميع، هذا هو “القدر المعلن” في نسخته الخالية من الأقنعة، حيث يتجلّى الوجه الحقيقي للهيمنة على الشعوب، وفرض الإرادة بالقوة، واستمرار الاستغلال تحت ستار الشعارات الرنانة وادعاءات الديمقراطية المزعومة.

لكن السؤال الذي يتجاهله الأميركيون هو: إلى متى يمكن أن يعيش هذا الوهم في رؤوسهم؟ التاريخ يثبت بالدليل أن كل إمبراطورية بنت عظمتها على الدماء والنهب سقطت في النهاية، مهما طال زمنها، وأن أي قدر مزعوم، مهما حاولوا تزيينه بالشعارات الرنانة، لا يمكن أن يخفي الحقيقة الأبدية: العدالة ستنتصر، والشعوب ستسترد حقوقها مهما طال الانتظار، والولايات المتحدة ليست استثناءً. ستأتي اللحظة التي ينقلب فيها هذا القدر المزعوم عليهم، حين تكتشف الشعوب أن لا أحد يملك تفويضا إلهيا للسيطرة على الأرض والإنسان.

وما يسمونه قدرا هو في الحقيقة لعنة، لعنة على من يفرضها، ولعنة على من يعاني منها، والوعي بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى لمواجهة أكبر أكذوبة في التاريخ الحديث: أكذوبة أن أميركا خُلقت لتقود العالم، وحين تدرك الشعوب هذه الحقيقة، يبدأ الطريق نحو الحرية، ويُسقط وهم “القدر الأميركي المعلن” إلى الأبد، بإذن الله.

كاتب راي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى