كُتاب الرأي

المحاورات الشعرية بين أصالة الموروث وحاجة التنظيم الرسمي

المحاورات الشعرية بين أصالة الموروث وحاجة التنظيم الرسمي

المحاورة الشعرية واحدة من أعرق الفنون التي ورثها المجتمع العربي والخليجي على وجه الخصوص، فهي ليست مجرد ترفٍ ثقافي أو منافسة آنية بين شاعرين، بل فضاء واسع يتجلى فيه ذكاء الكلمة، وقوة المعنى، وسرعة البديهة. وعلى مدى عقود طويلة، ظلت هذه الأمسيات بمثابة ملتقيات اجتماعية تجمع الناس حول الشعر، في مشهد يجسد روح القبيلة ويعكس مكانة الكلمة في الوعي الشعبي. إن هذا الفن الأصيل يمثل اليوم رافدًا ثقافيًا مهمًا، لا يقتصر أثره على الترفيه، بل يمتد ليعزز الهوية ويكرس قيم التواصل والانتماء.

لكن مع اتساع دائرة الاهتمام بالمحاورات، وتنامي حضورها عبر القنوات الفضائية ومنصات البث المباشر، برزت بعض التحديات التي تهدد هذا الفن، وفي مقدمتها التجاوزات اللفظية والإسقاطات الخارجة عن الذوق العام. هذه الممارسات، التي قد تصدر أحيانًا عن قلة من الشعراء أو حتى بعض الحضور، تؤدي إلى تشويه صورة المحاورة وإضعاف قيمتها، فتتحول من ساحة إبداعية راقية إلى مجرد مشهد من التلاسن الشخصي. وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى تنظيم رسمي يحمي هذا الموروث من الانزلاق.

التجاوزات تهدد أصالة الفن

إن أخطر ما يواجه المحاورات اليوم هو غياب الضوابط الصارمة، ما يفتح المجال لتوظيف المنصة الشعرية في تصفية الحسابات أو استعراض الألفاظ الجارحة. ولعل ما يزيد الأمر خطورة أن هذه المحاورات باتت تُبث على نطاق واسع، ما يعني أن أي تجاوز لا يبقى محصورًا في مجلس صغير، بل يصل إلى آلاف المتابعين. وهنا يضيع جوهر المحاورة بوصفها أداة للإبداع، ويحل محلها الجدل العقيم والإثارة الرخيصة. إن مواجهة هذا التحدي تبدأ من الاعتراف بأن المحاورة ليست مجرد نشاط شعبي عابر، بل منتج ثقافي يستحق الحماية والتنظيم.

دور هيئة الإعلام

في ظل هذا الواقع، يبرز دور هيئة الإعلام كجهة تنظيمية لا غنى عنها. فهي بحكم مسؤولياتها تضع المعايير التي يجب أن يلتزم بها كل محتوى إعلامي يُبث للجمهور، والمحاورات الشعرية ليست استثناء. بل يمكن القول إنها أكثر حاجة للرقابة نظرًا لتأثيرها المباشر وسرعة انتشارها.
إن رقابة الهيئة لا ينبغي أن تُفهم على أنها تضييق أو حجر على حرية الشعراء، بل هي صمام أمان يضمن أن تبقى الكلمة في إطارها الصحيح. فمن حق الجمهور أن يستمع إلى محاورة راقية تعكس القيم الثقافية، ومن واجب الهيئة أن تمنع كل ما يسيء لهذا الفن أو يخرج به عن مساره.

ترخيص الشعراء… مسؤولية وانضباط

وإذا كانت الرقابة ضرورية، فإن ترخيص الشعراء يعد خطوة مكملة لا تقل أهمية. فكما يُشترط الترخيص لمزاولة المهن الأخرى التي تمس الجمهور، ينبغي أن يخضع ميدان المحاورة لآلية تفرز من يملك أدوات الشعر من غيره. الترخيص هنا ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لحماية المنصة الشعرية من الدخلاء الذين يسعون وراء الشهرة السريعة على حساب الذوق العام.
إن الشاعر المرخص سيعي أن الكلمة مسؤولية قبل أن تكون موهبة، وسيحرص على أن يقدم ما يليق بجمهوره وتاريخه. كما أن هذا التنظيم يمنح المحاورة قيمة إضافية، إذ يضعها في إطار احترافي يجعلها أقرب للفنون المعترف بها رسميًا، ويشجع على تطويرها وتصديرها للعالم باعتبارها جزءًا من الهوية الوطنية.

بين الحرية والانضباط

قد يُجادل البعض بأن الترخيص والرقابة يتعارضان مع حرية الإبداع، غير أن التجارب العالمية أثبتت أن الحرية المطلقة دون ضوابط تتحول سريعًا إلى فوضى. إن الفن حين يفتقد التنظيم يفقد احترامه لدى الناس، بينما الفن المنضبط يكتسب مكانته وقيمته. ومن هنا فإن الرقابة الواعية والترخيص المدروس لا يقيدان الشاعر، بل يرفعان من مستواه ويضمنان أن يبقى شعره في خدمة الذوق العام.

خاتمة

المحاورة الشعرية ليست مجرد مواجهة بالكلمات، بل هي إرث ثقافي يعكس عبقرية المجتمع ويجسد تاريخه. وحمايتها من التجاوزات مسؤولية الجميع، بدءًا من الشعراء والمنظمين، وانتهاءً بالجمهور والجهات الرسمية. لكن المسؤولية الكبرى تظل على عاتق هيئة الإعلام التي يجب أن تضع الأطر الواضحة وتمنح التراخيص اللازمة وتتابع التطبيق بدقة.
وحين يتحقق ذلك، ستظل المحاورة الشعرية فنًا راقيًا يحمل رسالة أصيلة، ويعكس الوجه المشرق للتراث، ويثبت أن الكلمة في مجتمعنا ما زالت تحتفظ بمكانتها وقدرتها على البناء والإلهام
أ / تركي عبدالرحمن البلادي

كاتب صحفي وباحث تربوي

 

تركي عبدالرحمن البلادي

كاتب رأي وباحث تربوي

‫4 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى