كُتاب الرأي
ميثاق المهد

ميثاق المهد
فيصل الكثيري
الإنجاب قد يبدو عادة موروثة أو حدثا جسديا، وفي جوهره تكليف إنساني يسبق الفرح ويستدعي الاستعداد. فكل طفل يولد يحمل في أعناق الكبار عهدا؛ قوت يحمي من ذل السؤال، وتعليم يفتح له أبواب الحياة، وبيئة تصون كرامة النفس قبل أن تصون الجسد. تعلو الأصوات ساعة الولادة، وتزدحم الصور في الهواتف، بينما الأسئلة الكبرى تُؤجل: من أين قوت الغد؟ من يتفرغ لصحبته وتربيته؟ أي مدرسة وحيّ ومدينة تمنحه فرصته العادلة؟ من قدّم الأجوبة قبل أن يُمهَّد المهد أقام الحق، ومن تركها معلّقة حمَّل الصغير ثمن فرحة قصيرة. الأبوة ولاية طويلة النفس، ليست لقبا يُعلق ولا صورة تُنشر، هي بيت يأوي، وقوت يحمي من ذل السؤال، ووقت يُقتطع من القلب لا من فضول الساعات. الحكيم يؤخر إذا عجز، فإدخال طفل إلى درب مزدحم بلا عدة ظلم مؤجل مهما حسنت النيات. وقد جرى على ألسنة الناس قولهم: ((الطفل يأتي ورزقه معه)). كلمة قد تُطمئن من جهة الإيمان بأن الأرزاق بيد الله، لكنها إذا صارت ذريعة للتهاون أفسدت الفهم وأضرت بالأبناء. فالرزق لا يهبط في المهد مع المولود، إنما يُستخرج بالكدّ، ويُهيأ بالتخطيط .. ويُصان بالمسؤولية. من اتكأ على هذه العبارة ليبرر العجز جعل الطفل رهينة ظروف قاسية لا يد له فيها. والحقيقة أن رزق الطفل أمانة في أعناق الكبار، إن قصّروا فيها دفع هو الثمن من جسده وكرامته. وهنا يلتقي الإيمان بالواجب؛ فالله رازق، لكنه أمر بالسعي، وجعل العدل في التوزيع والتكافل شرطا لحفظ الحياة.
وظيفة الفكر أن يوقظ الضمير لا أن يزين الكلام. والمثقف الذي يرى مصائد الحياة ويكتفي بالتهنئة يترك الحقيقة في الظلال. والمجتمع الذي يفاخر بالعدد من غير شروط يكرر خطأه جيلا بعد جيل. وهنا نستحضر قول المعري: وأرحت أولادي فهم في نعمة العدم. لم يكن ذلك كرها للحياة، إنما رحمة من زاوية أخرى؛ إذ الحياة مسؤولية قبل أن تكون بهجة، ومن لم يتهيأ لها ظلم نفسه وظلم من أتى بعده.
نحن بحاجة اليوم إلى ميثاق يسبق التسمية والاحتفال، يقوم على ثلاث ركائز لا حياة عادلة للطفل من دونها: كفاية مادية ترفع عنه مهانة الحاجة، وتربية واعية تشارك فيها الأسرة والمدرسة والشارع، وأمان يحميه القانون وتصونه كرامة النفس. عند اكتمال هذه الأركان يصبح الفرح حقا للصغير قبل الكبار، وعند غيابها يكون التريّث حكمة ورحمة.
كل دمعة في عين طفل تذكير بأن الأبوة تُثبتها الأفعال لا الكلمات. والتهاني التي تنفصل عن الاستعداد وعود ناقصة، كالزهر إذا قُطف بلا جذور. والعلاج واضح: ضمير يسبق الزينة، وعهد يُخط في القلب قبل أن يُكتب في السجلات. عندها فقط يغدو الإنجاب عملا أخلاقيا يليق بالإنسان، ويولد الصغير إلى بيت يضمن له الكرامة قبل الصور، والاستقرار قبل الألقاب، والحياة التي تُعاش حقا لا التي تُعلّق في الألبومات.
الله يبارك جهودك استاذ فيصل على المقال و الصحيفة الرائعه و اعتذر منك انى تابعت مقالاتك متأخر ، و الله يوفقكم