كُتاب الرأي

أمريكا: أرض المحارق والموت

أمريكا: أرض المحارق والموت

محمد الفريدي

في ربيع 1741، كانت نيويورك تحترق بحرائق متفرقة ملأت المدينة بالذعر، ولم يحتج المستعمر الأبيض آنذاك وقتا طويلا، فالمتهم جاهز: العبيد السود.

لا دليل، ولا تحقيق، فقط جلد أسود يكفي ليتهم صاحبه بإشعال الحرائق. وفي مارس وأبريل من ذلك العام، اندلعت النيران بشكل كبير، واندلعت معها عقلية أمريكا الحقيقية: عقلية تحرق الإنسان قبل أن تطفئ النيران، وتبحث عن جثة لتدفن خوفها بدل أن تواجه الحقيقة.

حُشر السود في المحاكم، لا لشيء سوى أن لونهم يكفي لإدانتهم، وصارت المشاهد أقرب إلى مذابح علنية: عبيد يُحرقون أحياء في الشوارع، وآخرون يُعلَّقون بالسلاسل حتى يموتوا جوعا، والبعض يُلقى تحت عجلات حديدية ليُسحق ببطء، أو يُشوون على نار هادئة مصمَّمة خصيصا لإطالة فترة العذاب. كانت نيويورك، التي يتغنّى بها الأمريكيون اليوم كعاصمة للحرية، مقبرة سوداء جماعية.

لكن ما جرى في 1741 لم يكن حادثا عابرا، بل كان بروفة أولى لوحشية ستكبر وتتمدد حتى تصبح هوية ثابتة لأمريكا. من إبادة الهنود الحمر الذين أُخرجوا من أرضهم بالرصاص والتجويع، إلى تجارة العبيد التي حوّلت ملايين الأفارقة إلى بضاعة تُباع في المزادات، إلى القنابل النووية التي أُسقطت على هيروشيما وناجازاكي، أمريكا، مهما بدت ناعمة، لا تعرف الحرية إلا كذريعة لتبرير القتل.

أمريكا دولة بُنيت على الجثث، وتربّت على الدماء، وتغذّت على الدموع، ولم يكن حرق العبيد في نيويورك إلا وجها صغيرا من الوجه الحقيقي الذي ظهر لاحقا في فيتنام حين أُغرِقت أطفالها بالنابالم، وفي العراق حين قُتل المدنيون تحت شعار “الديمقراطية”، وفي فلسطين اليوم وهي تغطي جرائم الاحتلال بالسلاح والفيتو. إمبراطورية دموية لا تعيش إلا على الموت، كلما جفّت الدماء في مكان، فتحت مقابر جديدة في مكان آخر.

ولا تعتذر، لأنها لا ترى في تاريخها ما يستحق الاعتذار. تكتب التاريخ من زاويتها وحدها؛ فالقاتل عندها بطل، والضحية مجرد “خسائر جانبية”. لكن الدماء لا تختفي، والجثث لا تصمت، وكل روح أُحرقت في نيويورك عام 1741، وفي العراق، وأفغانستان، وفلسطين، ما زالت تصرخ في وجهها: هذه ليست حضارة، بل وحشية بألف قناع.

الوحشية الأمريكية ليست ذكرى قديمة، بل سياسة قائمة من ذلك التاريخ إلى اليوم، وتدير العالم بنفس العقلية القديمة: عقلية الشواء البشري البطيء، لكن بأدوات أكثر أناقة، من الحصار الاقتصادي الذي يجوع الشعوب حتى الموت، إلى الحروب بالوكالة، إلى تسليح الطغاة وحمايتهم. كل هذا يجري تحت يافطة واحدة: (أمريكا أولا) و(حقوق الإنسان).

أمريكا تقتل الإنسان باسم حقوقه، وتحرق مدنه باسم حريته، وتدمّر الأوطان باسم السلام. وما بين نيويورك 1741 وغزّة 2024 خيطٌ واحد لا ينقطع: اليد ذاتها التي أشعلت النيران في العبيد في نيويورك، هي العقلية نفسها التي ترى اليوم في الفلسطينيين مجرّد أجساد سوداء، وحطب، ووقود.

أمريكا لم تتغيّر. فقط استبدلت السلاسل بالفيتو، والعجلات الحديدية بالقنابل الذكية، والمشانق بالطائرات المسيّرة. لكن جوهرها هو ذاته: وحشية ممنهجة تتغذى على دماء الضعفاء، وتفرض إرادتها على العالم تحت شعارات براقة، وتستغل معاناة الشعوب لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها، وكل مكان تحشر أنفها فيه يتحول إلى مسرح للموت والخوف، فلا تحرق مدينة إلا وتترك وراءها ذكريات لا تُمحى من الألم والدم.

تخيَّل رجال الإطفاء يجمعون السود من الشوارع، حتى أولئك الذين شاركوهم في إخماد النيران. ثم تبدأ محاكماتهم المسرحية التي تنتهي بجثث محترقة، وبعبيد يُشوَون أحياء، وبأجساد منهكة تُساق إلى المشانق في الطرقات، وبعظام تتحطّم تحت العجلات الخشنة. لقد كُتب التاريخ الأمريكي على جلودٍ سوداء، وبدماء سُفكت على الأرض، و برماد ارتفع إلى السماء.

المؤرخة الأمريكية جيل ليبورا وثّقت في كتابها “نيويورك تحترق” صورا لا يجرؤ الخيال على رسمها: تعليق العبيد بالسلاسل حتى الموت جوعا، وشواء الأجساد على نارٍ بطيئة حتى يتحوّل الألم إلى طقس جماعي للمتعة، وتحطيم العظام بعجلات خشنة حتى يصير الجسد كومة من العظام. هذه ليست “حضارة”، بل مذبحة مؤسِّسة على الدم، جرى محوها من الذاكرة ليُبنى فوقها اليوم وجهٌ كاذب لأمريكا “الحرية”.

لكن فلنسأل انفسنا : هل انتهت هذه الوحشية؟ أم أنها فقط بدّلت قناعها؟

الجواب واضح: أمريكا لم تتغير.

هي نفسها التي قتلت الهنود الحمر، واستعبدت السود، وأبادت هيروشيما وناجازاكي. هي نفسها التي سكبت السموم الكيماوية فوق رؤوس أطفال فيتنام، وحوّلت العراق إلى ركام، وأفغانستان إلى مقبرة، واليمن وليبيا إلى مأساة. واليوم، تدعم علنا إسرائيل لتواصل ذبح الفلسطينيين بحجّة “الدفاع عن النفس”.

أمريكا بارعة في تبديل الأسماء: مرّة (حماية الديمقراطية)، ومرّة (محاربة الإرهاب)، ومرّة (حقوق الإنسان). لكن النتيجة واحدة: دماءٌ تسيل، وأوطانٌ تُحرق، وأجيالٌ تُذبح تحت شعاراتها المؤدلجة الملوّثة.

في الداخل، لم يعد العبيد يُشعلون النيران، لكن الشرطة تواصل الدور نفسه. إطلاق الرصاص في رؤوس الشباب السود هو الوجه العصري للعقلية القديمة ذاتها. جورج فلويد لم يمت صدفة تحت ركبة شرطي؛ بل هو امتداد لعبد كان يُساق إلى محرقة في نيويورك قبل ثلاثة قرون. الفرق الوحيد أنّ المشهد صار يُبثّ مباشرا على الهواء.

وحين يخرج الساسة الأمريكيون ليعطوا لنا دروسا في الحرية، لا أرى سوى السخرية. أيّ حرية؟ حرية القنابل الذرية؟ حرية الطائرات المسيّرة التي تحرق الأخضر واليابس في الدول العربية؟ حرية الفيتو في مجلس الأمن لتغطية جرائم الاحتلال؟

أمريكا دولة لم تُبنَ على دستور، بل على مقابر: مقابر الهنود الحمر، ومقابر العبيد، ومقابر الحروب التي خاضتها وتخوضها حتى الآن. وهذه ليست أخطاء عرضية، بل هي جوهر الفكرة الأمريكية: أن تعيش هي على حساب موت الآخرين، وليُدفن البشر الأبرياء تحت الركام.

يظنون أن الإعلام قادر على تلميع وجهها القبيح، وأن (هوليوود) قادرة على صناعة صورة البطل المنقذ، لكن الحقيقة أوضح من أن تُطمس: أمريكا ليست (أرض الحرية)، بل أرض النيران، أرض المشانق، أرض المحارق المستمرة. تاريخها الأسود ليس صفحات من بطولة، بل فصول من وحشية مكتوبة بالدم، وما زالت تُكتب حتى اليوم في بغداد ودمشق وغزة وكابول، حيث يتكرر المشهد ذاته بوجوه جديدة وضحايا آخرين.

والأمم التي تبني مجدها على الجثث لا تعمّر طويلا. روما سقطت. النازية سقطت. وأمريكا – مهما بدت متماسكة اليوم – تحمل بذور فنائها بداخلها: عنصرية لا تموت، اقتصاد قائم على الدم، وسلطة ترى في الإنسان مجرد وقود لحروبها.

نيويورك 1741 لم تكن فصلا من الماضي، بل إعلانا مبكرا عن هوية وحش ما زال ينهش العالم حتى هذه اللحظة. أمريكا ليست استثناء في التاريخ، بل وصمة عار لا تزال تنزف. كل حرب تشعلها، وكل حصار تفرضه، وكل دمعة طفل تسقط في أي بقعة من الأرض، هي امتداد لتلك المحارق والمشانق. إنها دولة تعيد إنتاج جرائمها بوجوه جديدة، وتقدّمها للعالم في ثياب (الحرية)، و(الديمقراطية)، و(الدفاع عن حقوق الإنسان).

إنه الوحش الذي لا يشبع من الدماء، يقتات على الخراب، ويغطي جريمته برايات الحرية المزيفة. من فيتنام إلى بغداد، ومن هيروشيما إلى كابول، يحفر المقابر ويدّعي أنه يزرع الديمقراطية. لكن حضارة تُبنى على الجثث والرماد لا يمكن أن تبقى واقفة طويلا، وإن طال الزمن. سيأتي اليوم الذي يسقط فيه هذا الوحش كما سقط غيره، لأن الدماء لا تتحول إلى أساس متين، ولأن النار مهما اشتعلت لا تبني وطنا، بل تترك وراءها رمادا يفضح الجرائم.

وسيظل هذا الرماد شاهدا أبديا، يلاحق أمريكا حيثما ذهبت، ويذكّرها بأنها ليست أمة بنت مجدها بالعلم أو بالعدل، بل بالحديد والنار، بالعبودية والإبادة، بالدماء التي لا تجف، وسقوطها ليس احتمالا، بل حتمية تاريخية؛ فالإمبراطوريات التي جعلت من القتل دستورا، ومن الكذب دينا، ومن النهب قانونا، قد تسيدت يوما، لكنها لم تبقَ أبدا، وسيأتي اليوم الذي تنهار فيه أمريكا تحت ثقل جرائمها، تماما كما انهارت قبلها عروش الطغاة والقتلة عبر التاريخ.

أمريكا اليوم تبدو جبّارة، لكنها في حقيقتها هشّة، مأزومة من الداخل، تخاف من ظلها، تخشَى من كلمة، ومن فكرة، ومن صوت يفضحها. إنها كيان يعيش على الخوف، يحرس نفسه بالجدران، ويزرع قواعده العسكرية في كل مكان كما يزرع المقابر. ولكن لا الجدران تحميها، ولا الأساطيل ترد عنها السقوط، فالمصير الذي هزم روما وأطاح ببرلين ينتظرها مهما طال الزمن.

إن دماء الأبرياء التي سُفكت في نيويورك عام 1741، وفي هيروشيما، وفيتنام، وبغداد، وغزّة، لن تذهب هباء منثورا؛ فسيأتي اليوم الذي تُحاكم فيه أمريكا، لا في محاكم التاريخ وحدها، بل في محكمة العدل السماوي، حيث لا يعلو صوتٌ فوق صوت الحقيقة.

فهي قد تخدع العالم بالصور والشعارات، لكنها لن تستطيع أن تمحو الحقيقة الأبدية: أنّها وحشٌ لم يعرف يوما معنى الرحمة، ولا حقوق الإنسان، ولا الحرية، وأنّ نهايتها ستكون على يد النار ذاتها التي أشعلتها في كل مكان.

اليوم، حين تتحدث واشنطن عن “حقوق الإنسان”، يحق لنا أن نضحك بمرارة. أي حقوق هذه التي تبدأ من شواء العبيد أحياء في نيويورك، وتصل إلى قصف المستشفيات في غزة؟ أي إنسانية تلك التي تذرف دموعا مصطنعة على أوكرانيا، بينما تغض الطرف عن أطفال يُنتشلون من تحت أنقاض البيوت الفلسطينية؟

إنّ أمريكا ليست دولة حرية كما تزعم، بل دولة قامت على محارق متواصلة؛ محارق بدأت مع الهنود الحمر الذين أُبيدوا بالملايين، ومرّت عبر العبيد السود الذين عُلّقوا فوق النيران، وما زالت مستمرة اليوم في كل مكان تطؤه أقدام جنودها أو تصل إليه أسلحتها. الفارق الوحيد أنّ الإعلام الضخم يغطي جرائمها بالمساحيق، فيحوِّل القاتل إلى بطل، والضحية إلى “مجرم محتمل”.

التاريخ لا يرحم، والأمم التي تبني مجدها على الرماد والجماجم، لا بد أن يأتيها اليوم الذي تنهار فيه تحت ثقل جرائمها. كما سقطت روما بعد أن أكلت نفسها من الداخل، وكما تهاوت النازية رغم جبروتها، فإن أمريكا – برغم صخبها – تحمل بذور فنائها في داخلها: عنصرية لا تموت، اقتصاد قائم على الحروب، ونظام سياسي يعبد الشركات والسلاح.

أمريكا اليوم ليست سوى وجه جديد لذلك الحشد الغاضب في نيويورك عام 1741: نفس الحقد، نفس النار، نفس الهوس بتجريم الضحية وتبرئة الجلاد، وحين يسقط القناع، سيظهر للعالم كله أن “أرض الحرية” لم تكن يوما سوى مقبرة جماعية مغطاة برايات مزيّفة، وأن تاريخها مكتوب بدماء الضحايا التي أُزهقت، لا بشعارات حريتها الفارغة.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. ابداع كاتبنا القدير،
    عندهم الغاية تبرر الوسيلة
    ولابدالظلام أن ينجلي
    ولابد للقيد ان ينكسر
    اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك
    وإكفنا شرهم بما شئت
    إنك على كل شيء قدير

    1. أخي العزيز أبو سعيد، كلماتك نفحات أمل ونور في دروب الحقيقة، بارك الله فيك.
      حقا، مهما طال الظلام، سيأتي الفجر لا محالة، والقيد سينكسر، وستظهر عجائب قدرة الله، فهو القادر على كل شيء.
      نسأل الله أن يحمينا ويحمي بلاد المسلمين، ويبعد عنا شرهم وأذيتهم، وأن يثبتنا على الحق دائما وأبدا.
      أخوك/ أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى