كُتاب الرأي

الاختلاف الذي لا يُغفر

الاختلاف الذي لا يُغفر

فيصل مرعي الكثيري

لم يكن الاختلاف يوما داء، إنما هو من دلائل الحياة. الميّت وحده هو الذي لا يختلف، لأن لا رأي له ولا وعي فيه. أما الأحياء، فلكل منهم عقل يزن، ونفس تميل وتجربة تشكل مداركه. ومن العبث أن نظن أن الناس سيتشابهون في الرأي كما تتشابه النقود في الخزينة، أو أن تتطابق أفكارهم كما تتطابق قطع الحجارة المصقولة. غير أنّ المأساة لا تبدأ من طبيعة الاختلاف، إنما من طبيعة الناس في تلقيه. فالاختلاف، في ذاته، حيادي. كالسكين: تقطع بها الخبز، أو تجرح بها أحدا. المشكلة ليست في الأداة، إنما في اليد التي تمسك بها. وهكذا، يتحول اختلاف الآراء من فرصة للتكامل، إلى ذريعة للتكفير، وإخراج الناس من المِلّة، والتطاول على غيب لم يُكشف إلا لله.
أصبحنا نرى اليوم مشاهد تُرعب العاقل: رجل يكتب رأيا، فيُتهم في دينه. امرأة تسأل سؤالا، فيقال لها: كافرة!
فما بال أقوام اليوم، إذا خالفهم أحد في الفتوى أو الرأي، نصّبوا أنفسهم وكلاء على الآخرة، يكتبون بأقلامهم صكوك الجنة والنار؟
الخطير هنا، ليس الغلوّ وحده، على أنّ الأخطر هو التعدّي على مقام الألوهية. الله، جلّ جلاله، الذي يعلم السر وأخفى قال عن يوم الفصل:
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
فهل بقي لأحد بعد هذا أن يزاحم الرب في علمه، ويقضي في الناس بأهوائه؟ إنهم لا يكفرون الناس، إنما يكفرون بحدودهم كبشر، ويتطاولون على الغيب كأنهم يملكون مفاتيحه.
نحن هنا لا ندعو لتمييع العقيدة، ولا للسكوت عن الباطل، غير أنّنا نُفرّق بين الخلاف العلمي، والخصومة المتألهة.
الصحابة أنفسهم اختلفوا: في الفقه، وفي تأويل النصوص، بينما المواقف السياسية الكبرى لم تخلُ من التباين بينهم. ومع ذلك لم يقل أحدهم لصاحبه: أنت في النار.
إن الذي يغلق باب الحوار لأنه يمتلك الحق المطلق يشبه من يطفئ مصباح غيره لأنه يرى طريقه وحده مضاء. والذي يعتقد أن كل من خالفه ضال، كمن يقف على شاطئ البحر ويصر أن اليابسة ما عدا قدميه محض سراب. الناس مراتب، والعقول مستويات، وكل إنسان محكوم بزمانه، وبيئته وما بلغه من العلم.
فمن عَلِم، فليُرِ الناس علمه لا سلطانه.
ومن أنكر، فليكن إنكاره بالحكمة لا باللعن.
فالاختلاف الراشد يعلّمنا التواضع، أما إذا جُنّد للتعالي، فإنه يكشف الغرور المستتر في ثوب الغيرة على الحق. والحق في ذاته لا يحتاج إلى من يُعادي باسمه، بقدر ما يحتاج إلى من يُحسن بيانه.
إن الله لا يحب المتجاوزين، ولو قالوا إنهم يغضبون له؛ فالغضب لله لا يُجيز التطاول على خلقه. ثم إن مصائر الناس بيد من خلقهم، لا بيد غيرة مدعاة، ولا قلم يتألّه على البشر. فالذي يحكم على العقول والقلوب والنوايا هو الله، لا أنت، ولا أنا، ولا أحد سوانا.

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى