كُتاب الرأي

من مرآة الروح إلى فلتر الوهم

من مرآة الروح إلى فلتر الوهم

منذ أن اخترع الإنسان المرآة، وهو يعيش معها علاقة ملتبسة؛ علاقة صداقة وخصومة في آنٍ واحد.
المرآة صادقة لا تجامل، تعكس الملامح كما هي، بكل تجاعيدها وثغراتها وانكساراتها، كما تعكس صفاء العيون حين تشرق بالحبّ، أو انطفاءها حين يطول بها الحزن.
كانت المرآة رفيق الإنسان الأمين، تكشف له صورته الحقيقية بلا رتوش ولا تزويق، حتى وإن كان لا يرغب في مواجهة الحقيقة.
ثم جاء عصر الفلاتر، عصرٌ يهرب فيه الإنسان من صورته الواقعية إلى صورة مصطنعة، يُعيد تشكيل ملامحه على مقاس رغبته، لا على مقاس طبيعته. الفلاتر لم تُبتكر لِتُجمّل الوجه فقط، بل لِتُسكّن خوف الإنسان من مواجهة ذاته، ولتخدّر جرحه أمام صراحة المرآة؟ هي أوهام رقمية تُزيّن الشحوب وتُطفئ أثر السنين، لكنها تسرق من الوجه صدقه، ومن الروح أصالتها.
لقد خسرنا في زمن الفلاتر فضيلة المكاشفة، حين كنا نقف أمام المرآة، كنا نتعلم الرضا، ونُدرّب قلوبنا على القبول، ونتأمل جمالنا كما خُلقنا، أما اليوم، فنحن نلهث خلف قناع جديد مع كل صورة، ونطارد خيالاً أجمل من حقيقتنا، حتى نسينا أن الجمال ليس في ملامح معدّلة، بل في حضور صادق يشرق من الداخل.
إن المرآة — بكل قسوتها — أكثر رحمة من الفلاتر، لأنها تُواجهنا بذواتنا كما هي، وتدعونا لنحب أنفسنا بلا زيف، أمّا الفلاتر، فهي تُغرقنا في بحر الوهم، فلا نرى إلا ظلالنا المشوهة، وربما كان الأجمل أن نعود إلى المرآة، نقرأ في صدقها دروسًا عن الرضا واليقين، ونعرف أن كل خطٍ في الوجه حكاية، وكل تجعيدة حكمة، وكل عيب ممهور بلمسة إنسانية تجعلنا أبهى مما نتخيل.

بقلم د. دخيل الله عيضه الحارثي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى