
التهميش لصُناع الدراما
إن مكونات الحدث الدرامي عناصر مترابطة
من الأفكار والصراع والشخصيات والزمان والمكان ،
وهناك أدوار مهمشة لا تظهر في المقدمة لكنها تحمل قيمة فنية ورمزية مهمة:
1. الكومبارس: الشخصيات الجماعية أو الفردية ذات الظهور المحدود، لكنها تمنح المشهد واقعيته (جمهور، مارة، جنود، موظفون).
2. الشخصيات الثانوية: أصدقاء البطل، الخادم، المساعد… قد تبدو بسيطة لكنها تكشف جوانب من البطل أو تُسهم في دفع الحدث.
3. الأدوار الرمزية: مثل شخصية غامضة أو عابر طريق يقول جملة مؤثرة تغيّر مسار البطل.
4. الشخصيات الصامتة: وجودها البصري يضيف بعدًا دلاليًا (طفل، عجوز، امرأة في الظل).
5. الأدوار “المخفية”: قد تكون شخصية غائبة بالمعنى المادي لكنها حاضرة بالتأثير (أب متوفى، قائد بعيد)
ونناقش هناك دور “الكومبارس”وهل هو إهانة، أم مرحلة طبيعية ومكوّن أساسي في صناعة الدراما.
بداية هل الكومبارس وقع بين الانحسار الدلالي والوظيفة الجمالية؟
إن الرأي العام بتداول فكرة مفادها أن “الكومبارس” عنصر ثانوي أو هامشي في العمل المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، إلى درجة أن الكلمة باتت تُستخدم مجازاً للدلالة على قلة القيمة وانعدام التأثير. غير أن هذا التصور ينطوي على تأويل دلالي مغلوط، ويتنافى مع حقيقة الدور الفني الذي يؤديه الكومبارس في بناء المشهد الدرامي وإكسابه مصداقية وعمقاً بصرياً.
وفي تتبعٍ للجذور اللغوية والدلالية
نجد أن أصل كلمة “كومبارس” من اللغات اللاتينية الحديثة (الإيطالية comparsa والإسبانية comparse)، ومعناها “المشارك” أو “المصاحب”. في سياقها الأصلي لم تكن تحمل معنى انتقاصياً، بل دلت على كل من يسهم في تكوين المشهد. لكن مع انتقالها إلى العربية، تعرضت لتحول دلالي جعلها تُفهم بوصفها مرادفاً للتبعية والهامشية. وساعد على هذا التحول توظيفها المجازي في الخطاب الاجتماعي: “فلان مجرد كومبارس”، بما يعزز دلالة التهميش.
لكن لماذا هذا التصور السلبي؟
إن من أسباب ذلك مايلي:
1. هيمنة ثقافة النجم: إذ تُصاغ الذائقة الفنية في سياق يركز على البطل الفردي، ويعتبر بقية العناصر خادمة له.
2. قصور الوعي الجمالي: حيث يغيب عن كثير من الجمهور إدراك أن الكومبارس ضرورة لإنتاج المشهد وإيهام المتلقي بالواقع.
3. تثبيت المجاز الاجتماعي: الذي أضفى على المصطلح شحنة سلبية لا أصل لها في الحقل الفني.
ولكيفية إعادة الاعتبار للكومبارس في النقد الفني يرى الناقد السينمائي والكاتب الصحفي د. طارق الشناوي أن توصيف الكومبارس بكونه “دوراً بلا قيمة” توصيف غير دقيق، مؤكداً أن “إطلاق صفة كومبارس على فنان ليست أبداً مسبة”، بل إن الكثير من نجوم الفن بدأوا حياتهم الفنية من هذا الموقع. ويضرب الشناوي أمثلة متعددة:
• هند رستم التي ظهرت كومبارساً في فيلم غزل البنات ولاحظها الجمهور رغم صمتها.
• أحمد زكي الذي كان كومبارساً صامتاً في مسرحية القاهرة في ألف عام (1969)، قبل أن يلفت الأنظار إلى موهبته.
• عادل إمام الذي بدأ بأدوار صغيرة وتطور تدريجياً حتى صار أبرز نجوم الكوميديا.
• محمود حميدة الذي لا يزال يذكر بفخر بداياته في صفوف المجاميع.
ويشير الشناوي إلى أن حتى كبار الفنانين مثل سميرة أحمد بدؤوا ككومبارس صامت، بل إن انتقالها من كلمة عابرة إلى بطولة فيلم جسّد إمكانية تحوّل “الهامش” إلى “المتن”.
أما القيمة الفنية والجمالية للكومبارس فتتمثل في:
• إنتاج الواقعية: إذ يستحيل تقديم مشهد جماعي مقنع دون حضور الكومبارس.
• خدمة الحبكة: وجود الكومبارس قد يُهيئ لمفصل درامي أو يكشف انفعال البطل.
• توازن الصورة: في الفنون البصرية، لا تكتمل جمالية التكوين المشهدي إلا بحضور المجاميع.
ويتضح أن النظرة السلبية للكومبارس ليست إلا نتيجة انزلاق دلالي وثقافة النجم الواحد، في حين أن الواقع الفني والنقدي يكشف عن قيمته الجوهرية. وقد بيّن د. طارق الشناوي أن الكومبارس مهنة شريفة، لا تنال من قيمة الإنسان، بل تمثل مدخلاً مشروعاً إلى عالم التمثيل. ومن ثم، فإن استعادة دلالة الكلمة في أصلها — “المشارك” — ضرورة لتصحيح الوعي الفني، ولإبراز أن الأعمال العظيمة لا تُصنع بالنجوم وحدهم، بل بالكتلة الجمعية التي يتكامل فيها حضور الكومبارس مع أدوار البطولة.