كُتاب الرأي

مشهور ومستور

مشهور ومستور

باسم سلامه القليطي 

في الأيام الأخيرة، ترددت الأخبار من دولة عربية مجاورة، عن إلقاء القبض على عدد من مشاهير “التيك توك”. التهم تتنوع: غسيل أموال، مخالفة الذوق العام، خدش حياء الأسرة، وغيرها من القضايا، والأعداد في تزايد، والمفارقة أن هؤلاء قبلها بأيام كانوا يملؤون الشاشات والهواتف، يتابعهم الملايين، ويصفقون لهم في كل ظهور، ويتأثرون بضحكاتهم وحركاتهم وآرائهم، وكأنهم رموز يُحتذى بها.
الشهرة في زماننا صارت أقرب من شربة ماء، وأسرع من ومضة برق، لكنها أيضا أخطر مما يتخيله كثيرون، هي نور ساطع في الواجهة، لكنه أحيانا يخفي وراءه عتمة النفس، وضعف الوازع، وهشاشة القيم، من اعتاد التصفيق، قد يبهره الصوت حتى ينسى وزن الخطوة، ومن غرق في أعداد المتابعين قد ينسى مراقبة الله سبحانه.
وعلى الجانب الآخر من المشهد، هناك مئات الملايين الذين لا يعرفهم أحد، المستورون عن الأضواء، رجال ونساء شرفاء، أتقياء أنقياء، يقضون أعمارهم في كدح شريف، وأمانة صادقة، موظف بسيط يعود من عمله منهكا لكنه مبتسم، لأنه يعرف أنه أطعم أولاده من حلال، أم تسهر الليالي على تعليم أبنائها ورعايتهم، لا تملك سوى دعاء صادق وأمل في الله، هؤلاء لا يملكون عدسات موجهة نحوهم، ولا ملايين تترقب أخبارهم، بل ربما لا يسمعون كلمة شكر إلا نادرا، وربما وُجهت إليهم ظلما تهم بالتقصير أو اللوم أو الجحود.
الفرق بين المشهور والمستور، أن الأول يعيش في اختبار علني، تُحصى عليه حركاته وسكناته، والثاني يعيش في امتحان صامت، بينه وبين ربه، المشهور إذا أخطأ، سقط من علو أمام أعين الملايين، أما المستور إذا زل، قام في الخفاء، ورفع يديه إلى السماء، يطلب العفو ويعود للطريق أقوى وأنقى.
لكن، من قال إن المستور أقل شأنا، بل قد يكون عند الله أعظم وأرفع، لأن ميزان الكرامة عند الخالق عز وجل لا يُقاس بعدد المشاهدات ولا بترتيب الترند، بل بما في القلوب من صدق، وما في الأعمال من إخلاص.
كم من مشهور عاش عمره يركض خلف التصفيق، ثم انطفأ فجأة، فهجره من كان يصفق له، وتركوه وحيدا في صمت بارد، وكم من مستور قضى عمره في خدمة الناس، فإذا رحل، بكت عليه القلوب قبل العيون، وظل أثره شاهدا على حياته بعد مماته.
الشهرة قد تمنحك المال والمكانة، لكنها لا تمنحك الطمأنينة إن لم يملأ قلبك الإيمان، أما الستر، فهو كنز من رضا الله، لا يراه الناس، لكنه يغمرك سكينة، ويحملك بخفة وسط أثقال الحياة.
ليس كل مشهور مذنب، ولا كل مستور ولي، فالموازين الحقيقية لا يملكها البشر، وإنما هي بيد من يعلم السر وأخفى، لكن تذكر، أن الله يحب عبده المتواضع، سواء عرفه الناس أو لم يعرفوه، ويكره من تكبر ولو على متابع واحد.
ولنتذكر دائما، أن ضجيج الباطل قد يعلو أحيانا حتى يغطي همس الحق، لكن الحق ثابت، والباطل زائل، وقد يُرفع إنسان في الأرض بينما هو ساقط في ميزان السماء، وقد يُخفى عن العيون رجل أو امرأة، وهما في سجل الكرامة عند رب العالمين.
فيا رب إن أردت لنا شهرة، فاجعلها عندك لا عند خلقك، وإن أردت لنا سترا، فاجعل ستر الدنيا والآخرة نصيبنا، وامنحنا قلبا لا يغتر بمديح، ولا ينكسر بذم، وعملا إذا رآه الناس لم يزدنا إلا تواضعا، وإذا لم يروه، كان أعظم عندك أجرا.

كاتب رأي

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى