كتبت إحداهن….

كتبت إحداهن….
كتبت إحداهن بقلبٍ يحمل الحنين، وذاكرةٍ ما زالت تعبق برائحة الطفولة….
قالت: إنها هي وإخوتها، كانوا في صغرهم يزورون مزرعة جدّهم، وبيت العائلة الكبير، حيث كانت السعادة تُزرع في الأرض قبل أن تُقطف من الشجر، وكان والدها يفيض حبًا للمكان، يتنفس رائحة الذكريات كمن يتنفس الحياة.
تلك الأيّام، كانت لهم وطنًا صغيرًا، يتسع للجميع، يضمّهم حول مائدة الجد، ويحتضن ضحكاتهم في المدى الواسع.
ومضت السنوات… كبروا. تفرّقت الطرق، وتعددت الانشغالات، لكن الأب ما زال يحنّ إلى المكان، إلى البيت، إلى المزرعة، إلى الأيام التي احتوته حين كان شابًا، كما احتضن هو أطفاله هناك.
وذات يوم، طلب من بناته أن يذهبن معه إلى ذلك البيت. أراد أن يوقظ ذكرى، أن يعيد نبضًا قديمًا في جدران صامتة. استغربت ابنته طلبه، لكنه أخبرها أن في البنت حنينًا لا يموت، ومبادرة تسبق التردد.
فكّرت. ثم حاولت أن تجمع إخوتها وأخواتها. البعض رفض، البعض اعتذر، وقلّة فقط وافقوا.
حتى الأم، خافت أن تُثقل على الجميع. فلكل أسرته، ولكل مشاغله.
لكن الابنة قالتها بقلبٍ صافٍ:
“تسافرون حيث تشاؤون، تقضون الإجازات في بلادٍ بعيدة، وهذا أبي… لا يطلب إلا أن نعود يومًا واحدًا، إلى حضن الذكرى.”
ومع الوقت، وافقوا.
وعادوا إلى البيت الكبير. لم يكن كما كان، لكن الدفء عاد. الضحكات ملأت الزوايا، والذكريات عادت تمشي على أطراف المكان.
رأت الابنة في عيني أبيها ابتسامة ممزوجة بالألم، وكأنه يهمس: “بالله يا أيامنا… عودي.”
تقول: “شعرت أني قطعة من روحه… وأن الذكرى ما زالت تسكنني، تأخذني من الحاضر، من المستقبل، فقط لأمسك بيده، وأقول: عدنا يا أبي… عدنا.”
ما أجمل ما كتبت! كلماتها ليست مجرّد حكاية… بل نبض قلبٍ يعرف الوفاء، وحنين روحٍ لم تتنكر لجذورها. كم نحتاج جميعًا أن نعود، أن نُحيي الأماكن القديمة لا بالحجارة، بل بالقلوب! أن نقول “شكرًا” لأولئك الذين بنوا لنا ذاكرة من حبّ.
لعلّنا ندرك، كما أدركت هي، أن بعض الأيام لا تعود، لكنها تظلّ حيّة فينا ما دمنا نرويها، ونعيشها، ونبكيها حبًا لا فقدًا.
فما أجمل الوفاء! وما أروع أن نكون أوفياء لذاكرة من أحبّونا بصمت، ومن انتظروا عودتنا بشوقٍ خجول.
أ/ أماني الزيدان