كُتاب الرأي

إذا أردت أن تكون عادلاً: ناقش الأفكار

إذا أردت أن تكون عادلاً: ناقش الأفكار

يكاد المشهد المعاصر يثبت لنا حقيقة يغيّبها الكثير من الناس تلك الحقيقة صعبة المراس تتسارع معها الكلمات، وتتعثر الحوارات، وقد بات من النادر أن نجد نقاشًا يُدار بعقلانية، أو حوارًا يُبنى على إنصاف. كثيرًا ما نرى الهجوم لا على ما قيل، بل على من قال. يُترك لبّ الفكرة ويُطعن في صاحبها، وكأن الاختلاف في الرأي يبرّر الإلغاء، وكأن المعارضة مبرّر للتجريح.
غير أن العدل، كل العدل، لا يُقام على النوايا ولا على الأشخاص، بل على وزن الأفكار بميزانٍ من الحجة والدليل. فإن أردت أن تكون منصفًا، ناقش الفكرة لا صاحبها.
إن الفكرة كائن حيّ، تنمو بالحوار وتزدهر بالدعم ولكنها تموت بالإقصاء. قد تصدر عن شخص تكرهه، ومع ذلك تكون صادقة نافعة. وقد تصدر عمّن تحب، ومع ذلك تكون فاسدة هشة. العدل هنا أن تفصل بين الحب والكره، بين القائل والمقول.
الفكر الحُر لا يُخوَّن، بيد أنه يُجابَه بالحجة. وإن أخطأت الفكرة، فلن تقومها الشتائم، إنما بالتصحيح والبرهان، كما أن الفكرة لا تُهان، ولا تُجَرّح، لكنها تُفكك، وتُفند، وتُرد بأخرى أقوى منها.
في ثقافة الحوار السويّ، لا مكان لعبارات مثل: أنت لا تفهم، أو هذا كلام سخيف ينبغي أن يقال: (هذه الفكرة تحتاج إلى مراجعة) بهذا، يرتفع النقاش من مهاجمة الأشخاص إلى تقييم المعاني ؛ فإذا كان الشخص يطمح إلى العدالة، فليجعل من أفكاره ميزاناً، لا من مشاعره حُكمًا مع أهمية أن يناقش ما يُقال، لا من الذي قال!
هكذا تُبنى الأمم، وتترقى العقول، ويُصان الاختلاف دون أن يتحول إلى خلاف، فميزان العدالة لا يُصنع من العاطفة؛ كون العاطفة تخون عندما تحب فتعمى عن قول الحقيقة وعن مناقشة جوهر الفكرة  وحين تبغض فإنها تطمس. ولذلك، فإن أول خطأ يقع فيه  المرء عندما يحاكم الآراء فيقوم بربطها بالأشخاص، بالطبع هذا الكلام خطأ وجوهره أكثر خطأ وأقل صوابًا ، فإن كان الكاتب لا يعجبني فليس من الضرورة أن تكون فكرته فاسدة أو منتهية الصلاحية فإذا ساد الاحترام انطبع الاتزان على الرأي، علينا أن نقبل فكرة الصح والخطأ في صلب الفكرة لا في أصل صاحبها، قد تكون صحيحة ولكن النظرة القصيرة قد تحولها إلى فكرة بائسة لا جدوى منها ولا منفعة هذا ليس من العدل في شيء ؛ فالعدل يوزن الرأي بمعزل عن قائله وقد تخرج فكرة ثمينة من فم من نختلف معهم جذريًّا ، وقد تقال ترّهات القول ملونة بالبلاغة من شخص تحبه حد التقديس.
صديقي القارئ اعمل بمبدأ: ناقشني ولا تلغني فالحوار لا يتطلب الانتصار؛ لكنه يطلب الفهم ولا تسعَ إلى إسكات الآخر ربما يرى الصح من زاوية قد لا تراها أنت، وفي سعيك لتفكيك فكرته قد تهدم حجته على الرغم من أنها صائبة وهذا من شأنه أن يدمر صورته، اعمل باستمرار على مقارنة الأفكار والوصول إلى معرفة الهدف من الفكرة التي طرحها الآخر فالاختلاف لا يعني الخصومة والنقد لا يعني بالضرورة مناصبة العداء والسماح بنمو المساحات السوداء وإزاحة المناطق الخضراء .
إن محاصرة الناس بأسمائهم وتاريخهم وخلفياتهم  قد يحصرهم في زوايا السخف ولا يؤخذ فيما بعد بآرائهم  بحكم أن أفكارهم ضالة وغير صالحة للنقاش ولا تصلح للطرح. هنا يمكن ألا نجد الحقيقة غير أنه سوف يصبح الانتقام بشكله وصورته الناعمة حاضرًا بقوة على المشهد الحواري ويتم أيضا تغليفه بشعارات لصرف النظر عن المحتوى السليم للفكرة ويمتد الأمر لمهاجمة كل ما يقدم من أفكار وتكفيرها وتجريمها وندخل فيما بعد في منطقة التجهيل والإقصاء.
وهكذا نمضي إلى الوراء لا لأننا نجهل، بل لأننا نرفض أن نستمع ولذلك فإن أول ضحية لمحاكمات الأشخاص بدلاً عن الأفكار هو الوعي الجمعي تتحول معه الساحات إلى منابر خوف لا منصات رأي فلا يبقى سوى الصمت في حين يقبر الوعي في خندق الكراهية.
خاتمة القول:
إذا أردت أن تكون منصفًا، عدلاً، واعيًا، فأمسك لسانك عن الأشخاص، وسلّ سيف عقلك على الأفكار فالفكرة لا تعرف أبًا ولا نسبًا، إنما تعرف البرهان، ولا تخجل أن تعتذر إن وُجهت إلى الحق، فالاعتراف بالخطأ، أعدل من التمادي في الباطل؛ ثم تعلم كيف تناقش الأفكار؛ لأن الفكرة لا تُخجل، لكن التجهيل يُخزي ولأن الناس يرحلون!  فينبغي على كل عاقل أن يدرك تمامًا أن الأفكار شاهدة على الرقي أو السقوط في وحل الخلاف الشخصي،وأن الترفع عن مواطن الشطط والزلل له أهمية كبرى في ميزان العدالة الفكرية، كما يتعين على الجميع التعلم والتدرب كثيرًا على: الفصل بين الرأي والشخصية، والسماح بنقد الفكرة دون اعتبارها طعنًا في الكرامة ، وحث النفس على أن تطرح الفكرة للبحث والتداول لا للانتصار ، والاحتفاء بالحجة الأقوى حتى لو لم تكن الحجة صادرة من الشخص عينه وأن يكون الهدف من كل هذا الوصول إلى الحقيقة والرأي السديد.

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى