كُتاب الرأي

**العبث الاستشراقي **

**العبث الاستشراقي **

في العقود الأخيرة، شهد العالم العربي نقاشًا متزايدًا حول منهجية المستشرقين القدامى في تناول التاريخ الإنساني وخاصة الديني والعربي والإسلامي، تبين أن السرديات التي قدمها هؤلاء لم تكن مجرد محاولات علمية موضوعية، بل كانت أدوات ضمن استراتيجية ثقافية وسياسية تهدف إلى إعادة تشكيل تاريخ الشعوب لخدمة مصالح الغرب الاستعماري في تلك الفترة، وقد نجحت في ذلك وأصبح المناهج التعليمية في العالم تؤلف افكارها على نسق تلك السرديات.
كما قال إدوارد سعيد، مؤسس الدراسات الاستشراقية النقدية:
“الاستشراق ليس فقط مجموعة من الدراسات عن الشرق، بل هو إطار معرفي يصنع تصورات عن الشرق لخدمة مصالح الغرب السياسي والثقافي.”

إن عبث المستشرقين في إعادة صياغة التاريخ لا حصر له، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك
إعادة كتابة الجغرافيا التاريخية: فمثلاً، حاول المستشرقون تصوير الخليل إبراهيم عليه السلام كشخص متنقل فقط بين العراق والشام، متجاهلين مصادر التاريخ الإسلامي التي تحدد موطنه الأصلي في بلاد كنعان والتي لم يصل إلى معرفته كائن من كان سوى تخمينات .
و تزييف سردية خروج موسى عليه السلام حيث ربطوا خروج موسى بمصر الحالية مع تجاهل أبعاد الرحلة التاريخية التي تتجاوز مجرد المكان، لتشمل الرحلة الروحية والاجتماعية، ومازالت العبث في سرديات لا أساس لها
” كلٌ يغني على ليلاه..” كل يجذب التاريخ إليه دون موضوعية
كان من أثار ذلك العبث إعادة توزيع الهويات العرقية والدينية وتصنيف الشعوب القديمة وفق أجندات استعمارية، مثل تصنيفهم للعرق السامي والأبيض، بغرض زرع الانقسامات بين المجتمعات، وبالتالي تسهيل سيطرة القوى الاستعمارية.
كما قاموا بتهميش المصادر المحلية: استبعاد الروايات والوثائق العربية والإسلامية الأصلية لصالح الروايات الغربية، ما أدى إلى تشويه الإرث الثقافي العربي وتزييف صورة الحضارات.
يقول طه عبد الرحمن، المفكر المغربي: “إن الفكر الاستشراقي لا يكتفي بقراءة تاريخنا، بل يعيد تشكيله بطريقة تُبعدنا عن ذاتنا وتُشوه هويتنا.”
لم تكن هذه السرديات مجرد دراسات أكاديمية، بل كانت جزءًا من مخطط أوسع يهدف إلى:
تفكيك الهوية الثقافية العربية والإسلامية، وتعزيز الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية، وتحويل الشعوب من فاعلين في تاريخهم إلى مجرد موضوعات يتم إعادة تفسيرها وفق منظور غربي.
وحسب رأي المفكرين العرب:
“علينا أن نعيد قراءة تاريخنا برؤية نقدية تتجاوز الروايات الغربية المفروضة، لنكشف عن تاريخنا الحقيقي بعيوننا نحن.”
على الجانب المقابل، اهتمت بعض الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بجانب البحث العلمي الدقيق لتصحيح هذه المفاهيم المغلوطة، مستندة إلى رؤى وطنية استراتيجية، أبرزها رؤية المملكة 2030، حيث سعت إلى:
-البحث الأثري والتاريخي: فعملت السعودية على تتبع التواجد البشري على أرضها، متخطية السرديات المستشرقية، لتؤكد أن الجزيرة العربية هي مهد البشرية ومنطلق الحضارات الكبرى، ووجود الأنبياء على أرضها، وهو ما يعزز مكانتها التاريخية كمنبع للأنبياء والرسل، والمصطفين الذين كلفوا بإصلاح البشرية ونشر القيم.
-تحليل السردية التاريخية: حيث يشارك الباحثون السعوديون في مراجعة وتصحيح المفاهيم المغلوطة، مؤكدين أن الأنبياء هم رسل الرحمة والدعوة إلى الفضيلة، وليسوا مجرد شخصيات أسطورية أو حكايات رمزية كما حاول البعض تصويرهم.
-ربط الحضارات: حيث امتدت الدراسات لتشمل الحضارات القديمة، من السومريين في الشمال إلى الإغريق في الغرب، مع الإشارة إلى ظهور النبلاء والفلاسفة مثل أرسطو، الذي وضع أسس التخطيط المجتمعي المثالي متأثرا بفضيلة أهل المشرق التي اكتسبوها من الانبياء ، فسعى إلى الفضيلة والعدل، مؤكدا ترابط الحضارات البشرية في مسيرة التاريخ.
إن قوة الحضارة تكمن في وعيها بتاريخها الحقيقي، ولا يمكن لأمة من الأمم أن تنهض وترتقي إلا إذا استردت روح تاريخها وامتداده القديم.
تلك الجهود العلمية والثقافية تمثل خطوة حاسمة نحو استعادة الهوية الثقافية والتاريخية، وتعزيز الثقة بالحضارة العربية والإسلامية العريقة، وكذلك تمكين الأجيال الجديدة من فهم جذورهم بموضوعية وواقعية، مع مواجهة الروايات المستعارة التي تسعى إلى تشويه التاريخ.
في هذا السياق، قال الباحث المصري عبد الوهاب المسيري:
“الاستشراق هو صناعة متكاملة لتشويه التاريخ والهوية، بهدف السيطرة على الشعوب، والفهم الحقيقي يتطلب نقد هذه الصناعة بكل حزم.”
كما أكد رواد النهضة في التاريخ العربي والإسلامي على أنه
“لا يمكن للحرية والكرامة أن يتحققا إلا إذا عرفنا حقيقتنا وأعدنا بناء أنفسنا على أساسها.”
إن عبث المستشرقين بالسردية التاريخية كان له أثر عميق في تشويه هوية الشعوب العربية والإسلامية، ولكن جهود البحث العلمي المستمرة، خاصة في المملكة العربية السعودية، تفتح آفاقًا جديدة لاستعادة الحقيقة التاريخية، وتأكيد أن تاريخنا العريق وحضارتنا الإنسانية كان وما زال نبراسًا للفضيلة والقيم السامية التي سعى الأنبياء والمصلحون عبر العصور لترسيخها في العالم.

د. عبدالرحمن الوعلان

 

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى