الإنجيل المسلّح وإبادة الأبرياء

محمد الفريدي
الإنجيل المسلّح وإبادة الأبرياء
في مطلع عام 2024، وبينما كان بنيامين نتنياهو منشغلا بتوجيه آلة القتل التي تمزق أجساد أطفال ونساء غزة، اجتمع بقساوسة أمريكيين لا يرونه زعيما لدولة، بل بوصفه يجسد نبوءة دينية غارقة في الدم.
في مشهد عبثي، جلس رئيس وزراء متطرف غارق في دماء الأبرياء بين قساوسة يباركون جرائمه بصمت مريب، ويتحدثون عن نبوءات نهاية العالم بدلا من وقف القتل، فيما تُغرق التراتيل أصوات الضحايا، وتُواصل آلة الموت عملها باسم عقائد لا تعرف الرحمة.
بينما كانت الأمهات في غزة تحت الأنقاض يصرخن طلبا للنجاة، كانت صلوات أولئك القساوسة ترتفع نصرة لإسرائيل على أطفال ونساء عُزل، لا لإنقاذ أرواحهم، في لحظة تكشف للعالم حجم الانفصام الأخلاقي الذي حوّل الدين المسيحي إلى غطاء للقتل، وجعل نبوءاته سلاحا موجّها إلى صدور الأبرياء.
في تلك اللحظات التي كانت فيها البيوت تُقصف على رؤوس ساكنيها، لم يكن الضمير الغربي مشغولا بالعدّ التنازلي للشهداء، بل كان منشغلا بتبرير المجازر تحت لافتة “الحق التاريخي” و”الوصايا المقدسة” و”الدفاع عن النفس”.
ولم تكن غزة وحدها محاصرة، بل كانت الحقيقة كلها تحت الحصار، فآلة الإعلام الكبرى أعادت تدوير الأكاذيب، وقدمت السفاح في صورة الضحية، وشيطنت الأطفال الذين وُلدوا في بقعة ضاقت عليهم سماؤها وأرضها، لأنهم فقط مسلمون.
وحين يختلط الدين بالسياسة، والمقدس بالعنصرية، تصبح الكنائس مقابر للعدالة، وتتحول النبوءات إلى خرائط للدمار الشامل ، والدم الفلسطيني وقودا لحرب “مقدسة” لا تشبه إلا حروب الإبادات الهمجية في القرون الوسطى.
وفي غمرة هذا الجنون، ما زال العالم يتفرج، وبعضه يصفق، أما نحن فلا نملك إلا الكلمة التي تشهد على الكذب الغربي الممنهج، وتدافع عن إنسانية تذبح كل يوم أمام أعيننا بلا حساب، ولا خجل، ولا رقيب.
نبوءة تبارك المجازر وتقدّس الخراب، وتحول أرض فلسطين إلى خشبة مسرح دموي تُكتب عليها فصول نهاية العالم بحبر من دم الأبرياء.
في تلك الجلسات الدموية، اختلط اللاهوت بالسلاح، وتحولت المذابح في غزة إلى طقس ديني يُبارك كجزء من نبوءة الخلاص وعودة المسيح، وتُقدَّم الأجساد الفلسطينية كقرابين لنهاية يُؤمن بها المتطرفون اليهود بدعوى الطهر والتدين والقداسة.
فقد تصدّر القس ماريو برامنيك وفدا دينيا أمريكيا متطرفا يُعرف بـ”الإصلاح الرسولي الجديد”، الذي يُؤمن بأن أنبياء هذا العصر هم من يقررون مصائر الأمم والشعوب، ويعيدون ترتيب العالم لتهيئة عودة المسيح. ووفق عقيدتهم، لا تتحقق هذه العودة إلا بسيطرة إسرائيل على “أرض الميعاد” وإبادة جميع الفلسطينيين، الذين يرونهم “قوى الظلام” التي يجب التخلص منها لتحقيق الخلاص الأبدي وعودة السيد المسيح.
إنها نبوءة ملوثة بالدم، تدثرت بالقداسة لتشرعن مشروعا استعماريا ينفي إنسانية الفلسطيني؛ تجسدت في قداس دموي يبارك الإبادة، بتراتيل تُعجّل بالهلاك، ومجازر تقدم قرابين بشرية تقرّبهم إلى السماء.
وصف القس توني بيركنز حركة حماس بأنها “شيطانية”، فيما نعت وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية”، ليطلق بعدها حصارا خانقا وقصفا دمويا، محولا إبادة المدنيين إلى مهمة مقدسة في حرب بين “النور والظلام”، تمهّد ـ في عقيدتهم ـ الأرض لعودة المسيح المخلّص من السماء.
وعندما انتهت الجلسة، صلّى بيركنز من أجل “نجاح الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة”؛ لا من أجل الأرواح أو العدالة، بل لإنجاح “الخطة الإلهية” الإنجيلية التوراتية، وردّ نتنياهو بابتسامة وعبارة تجسّد مدى بشاعة هذه الطقوس الدموية بقوله: “ربما هذه لحظة مجيئي إلى يسوع”.
وما بدا جنونا دينيا فرديا تجاوز نتنياهو وبرامنيك، وتمدد إلى مؤسسات واشنطن؛ حتى ظهر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث بوشم يحمل كلمة “كافر” بالعربية، وعبارة “Deus Vult” باللاتينية، شعار الحروب الصليبية، في إعلان انتماء عقائدي يرى الآخر عدوا وجوديا يجب سحقه.
هذا التطرف ليس جديدا على مؤسسة الحكم الأميركية. فلو عدنا إلى تصريحات جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر، حين وصف حربه على العراق وأفغانستان بأنها “حرب صليبية” قبل أن يتراجع، لأدركنا أن ما يجري في غزة اليوم ليس زلة لسان، بل كشف فجّ عن عقيدة دفينة تسكن عقل الإمبراطوريات، قديمها وحديثها.
وتجسيدٌ لعقيدة تُحوِّل الفلسطيني إلى عائق أمام ظهور الرب المُخلِّص، والمسلم إلى “كافر” يجب إبادته، لا لأنه يحمل سلاحا، بل لأنه يعيش على “أرض الميعاد” التي يعتقدون أن خلاصها لا يكتمل إلا بتطهيرها من “النجاسة”، وفق رواية دينية عنصرية تُلبِس جرائمهم ثياب التدين وتُضفي عليها مسحة القداسة.
ما نراه اليوم ليس مجرد تحالف سياسي، بل تحالف ديني متطرف عنصري، يغلف القتل بثوب المقدّس، ويحكم العالم بمسرح دموي يسيطر عليه “رسل العصر الحديث” الذين لا يسعون إلى تسوية ولا يؤمنون بالقانون الدولي، ولا يرون في الفلسطينيين شعبا يحق له المقاومة والحرية والحياة، بل عائقا يُعطّل مشهد الخلاص الأبدي.
وبينما يُصلّي برامنيك في القدس مع نتنياهو، ويستعرض هيغسيث وشمه في هاواي، تظل الحقيقة واضحة: ليست هذه حروبا على الأرض فقط، بل حروبا على العقل، على الكرامة، على الإنسان، على الحق، على الهوية، على الوجود، فهم لا يقتلون الجسد الفلسطيني فقط، بل يحاولون اغتيال فكرته، وعدالته، وإنسانيته، ويريدونه أن يموت أمامهم صامتا، بلا ملامح، بلا ذاكرة، وبلا حتى أثر.
إنها حرب تلبس عباءة الدين لتخفي جشع الاستعمار، وتستبدل شريعة الرحمة بشريعة الإبادة، في مشهد لم يعد يحتمل الصمت، ولا يُطيق الحياد.
هذه العقيدة الدموية لم تعد حكرا على متطرفين معزولين، بل تسللت إلى صلب القرار السياسي الأميركي، مدعومة بصمت أوروبي مخز يتشدق بالإنسانية حين يشاء، ويصمت أمام إبادة شعب أعزل متى يشاء، وما دام الدم الفلسطيني رخيصا في أسواق السياسة العالمية، ستظل العدالة عمياء، وميزانها مائلا نحو القاتل لا الضحية.
فقد تحوّل صناع القرار في العالم الحر إلى كهنة يباركون القتل ما دام الضحية فلسطينيا، ويرون في الطفل الفلسطيني خطرا مستقبليا، وفي أمه حاضنة للإرهاب.
في هذا المشهد العبثي، انكشفت حقيقة الغرب: حضارة تخدم مصالحها فقط، وحقوقها الإنسانية محصورة فيها، وتستهين بحياة الآخرين، وتدوس حقوقهم وكرامتهم تحت عجلات غطرستها السياسية وآلتها العسكرية.
وسط هذا الركام، يبقى الفلسطيني التحدي الأخير في وجه النبوءات الكاذبة، والضحية الأوضح لعقيدة تقول: من لا يكون معنا، فلا حق له في الحياة.
فالسياسة الأميركية تجاوزت الانحياز لإسرائيل لتصبح شريكة في إبادة شعب كامل يعيش على أرض وُعِد بها اليهود زورا، وهذه ليست حربا عادلة أبدا، بل جريمة كونية تُبرر بالمذابح عبر نبوءات مسيحية تغطي أطماع استعمارية، تقدّس القتل، وتُعيد تكرار أسوأ فصول الحروب الصليبية.
إنها لحظة سقوط أخلاقي مدو، تكشف كيف يمكن للعقيدة إذا تحالفت مع القوة أن تحول الكتاب المقدس إلى تبرير للقتل، والنبوءة إلى سيف مسلّط على رقاب الأبرياء، والإبادة إلى فعل بلا رحمة ولا شفقة.
أما أوروبا، التي صدعت رؤوسنا بحقوق الإنسان، فهي اليوم شريكة بالصمت ومتواطئة بالتجاهل، لا تجرؤ على قول كلمة حق لأن القاتل “حليفها”، وصمتها شهادة وفاة لقيمها، ونفاقها يجعلها شريكة في جريمة تطحن الإنسانية بلا رحمة وبلا حدود.
فغزة اليوم تمثل اختبارا أخلاقيا عالميا يكشف زيف النظام الدولي الذي لا تحكمه العدالة بل المصالح والقوة، ويُستغل اسم يسوع ليس لنشر المحبة، بل لتبرير الإبادة، وترتفع الصلوات ليس لشفاء الجرحى بل لاستمرار المجازر، الأمر الذي يفضح كل من يصمت ويتواطأ تحت حجج التدين و الحضارة و“الحياد”.
أصبح الصمت الدولي على جرائم غزة شهادة على انعدام الإنسانية، ودعوة ملحة لوقف نزيف الدم قبل أن يتحول العالم إلى مقبرة للعدالة وساحة يُكافأ فيها الجلاد ويُباد الفلسطيني.
في هذا العالم المقلوب، يُطلب من الفلسطيني أن يدين وجوده على أرضه، ويعتذر لجلاده أنه ما زال حيّا، ويموت بصمت بلا دمعة ولا صوت ولا وداع.
كيف لمجتمع دولي يدعي حماية القانون أن يتجاهل المجازر وقتل الصحفيين وتدمير المستشفيات؟ أأصبح تعريف الإبادة مشروطا بلون الدم أو جنسية القتيل أو ديانته؟
في غزة، لا تُشن حرب تقليدية، بل يتم اجتثاث حياة بكاملها: ثقافة، وتاريخ، وأغاني طفولة، ومعلقات شعرية كُتبت بالدم، ونقوش محفورة على جدران بيوت لم يبق منها سوى الركام.
ويتحول العالم إلى متفرّج محترف، يشاهد مشاهد الدم كفيلم سينمائي، ويقلب القنوات حين يشتد الألم، ويتحدث عن التوازن والحياد، بينما لا يرى سوى قتيل واحد جدير بالتعاطف، ولا يسمع سوى صدى رواية واحدة، وكل ما عداها يُصنف كراهية وتطرف وإرهاب.
وما يزيد الألم أن الجريمة لا تُرتكب بالصواريخ فقط، بل بالكلمة أيضا، بالتحريف، وبالطمس، وبالتجاهل، وبالتحيّز، وبالإقصاء المتعمّد للرواية الفلسطينية من المنصات العالمية. فالقتل الإعلامي لا يقل فتكا عن القصف، بل هو أشدّ، لأنه يعيد تشكيل الوعي ويزرع الشك في عقول لا تعرف الحقيقة يوما، وهو سلاح خفيّ يعزز الاحتلال، ويُضعف قدرة الشعب على الدفاع عن حقوقه ومقاومة الظلم، ويُبعد العالم عن فهم الواقع الحقيقي لما يحدث على الأرض، مما يزيد من معاناة الضحايا ويطيل أمد المعاناة والألم.
ومواجهة هذا الاحتلال الإعلامي تتطلب وعيا جماعيا وحراكا مستمرا لنقل الحقيقة والدفاع عن الرواية الفلسطينية بكل صدق وشجاعة، لأن الكلمة أحيانا تكون أقوى من السلاح في صناعة العدل وتحقيق السلام.
في زمن الصورة، يصبح الطفل الفلسطيني لاجئا في شاشات العالم، مشردا في ذاكرة عابرة، يُحذف من البرامج والتطبيقات، ويُمنع من الظهور، وكأن وجوده يربك المشاهد الغربي، الذي لا يحتمل دما بريئا، ولا يستطيع تبريره.
في غزة، تُكتب شهادة وفاة الضمير العالمي، ويُعلق فيها كل تعريف للعدالة، وتُسلخ فيها الحقيقة على مرأى ومسمع الجميع. لا يُطلب من القاتل التوقف، بل يُطلب من الضحية ألّا تتأوّه.
مع كل مجزرة، تتآكل الإنسانية، ويُضاف إلى أرشيف العار الإنساني فصل جديد لا يُنسى ولا يُغتفر؛ فصل ترويه الأمهات في دعائهن، ويكرّره الشعراء في منفاهم، ويبكيه الأطفال وهم يكبرون على ذكرى إخوة لم يكبروا.
هل بقي شيء لم يُقل؟ هل بقيت صورة لم تُلتقط؟ هل بقيت صرخة لم تُسمع؟ وهل بقي في هذا العالم من لم يخن قضيته أو يبرر المذبحة أو يغض الطرف عنها؟
في غزة، لا تنتهي القصص، بل تبدأ كل يوم بصرخة أم، بتهدّم بيت، ببكاء رضيع، بصورة شهيد، بمطر من نار، وبإصرار لا يموت على أن هذه الأرض لا تُستعمر، ولا تُنسى، ولا يُباع دمها في أسواق المصالح.
وغدا، حين تُفتح دفاتر الحقيقة، سيُسقط كل من سكت أو تواطأ أو صمت أو راوغ أو تذرّع بالحياد، وحين يُكتب التاريخ، سيعرف الناس أن غزة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت اختبارا أخلاقيا عالميا، فشل فيه الجميع إلا الفلسطيني، الذي رغم كل الألم والمعاناة، ظل صامدا، متمسكا بحقّه وكرامته، صانعا من الصبر والمقاومة نورا ينير درب الحرية والعدل.
ويتحول الإنجيل من كتاب مقدس إلى إنجيل مسلّح، وتصبح الإبادة طقسا من طقوس الخلاص المزيّف، يُباركها البابوات والقساوسة والرهبان، ويصفق لها الساسة يوميا، وتُبث مباشرة كأنها انتصار إلهي يُبارك الدم ويشرّع القتل، ويحوّل مذابح الأبرياء إلى مشهد تعبدي تُرفع فيه الصلوات على أنقاض الأطفال وجثثهم الممزقة.
كاتب رأي