كُتاب الرأي
أنسنة العمل الكشفي… لتبقى الحركة نبضاً إنسانياً حياً

أنسنة العمل الكشفي… لتبقى الحركة نبضاً إنسانياً حياً
في زمن تتسارع فيه التحولات وتتعالى فيه النداءات لقيم الرحمة والكرامة والتكافل، تبدو الحاجة ماسة لإعادة النظر في الطريقة التي تُمارس بها الكشفية العالمية، ليس من حيث الشكل والمراسم، بل من حيث الجوهر والهدف؛ وهنا تبرز من وجهة نظري الخاصة أهمية “أنسنة العمل الكشفي” كمنهجية تربوية وإنسانية تعيد الإنسان إلى قلب التجربة الكشفية، لا بوصفه مجرد مشارك في الأنشطة، بل بوصفه الغاية الأولى والرسالة الأسمى لكل ما تقدمه هذه الحركة العريقة.
أنسنة العمل الكشفي تعني ببساطة أن يكون الشبل أو الكشاف أو القائد هو المحور الحقيقي لكل نشاط وبرنامج وتخطيط؛ تعني أن نُعيد الاعتبار للقيم النبيلة التي قامت عليها الكشفية، مثل الصدق، والرحمة، والتقدير، والمواساة، وأن نُمارسها لا كشعارات، بل كأفعال يومية تترجم في المواقف الصغيرة قبل المناسبات الكبرى.
في ظل تحديات العصر، لا يكفي أن نحفظ كيف نعمل الربطات أو نُتقن نصب الخيام، أو قياس الارتفاعات والمسافات، إن لم يكن هناك نفس طيبة، وقلب مسؤول، وروح متعاطفة تتجاوز الذات نحو الآخر؛ الكشفية حين تُفصل عن بعدها الإنساني، تتحول إلى روتين بيروقراطي، تقارير وصور وأوسمة، لكن حين تُؤنسن، تصبح مدرسة حقيقية للحياة، تزرع الرحمة قبل النظام، والانتماء قبل المهارة، والضمير قبل الشارة أو الوسام.
تبدأ أنسنة العمل الكشفي من جعل القيم حاضرة في كل لقاء ونشاط ؛الاحترام لا يعلَّق على الجدران، بل يُمارس في الحوار والاختلاف. التعاون لا يُشرح فقط في المناهج، بل يُجسَّد في حمل الحطب والمشاركة في إعداد الوجبة؛ الرحمة لا تُطلب، بل تُعاش حين يمد الكشاف يده لمسنّ، أو يُصغي لزميلٍ يعاني، أو يُبادر لمساعدة متضرر.
وتتجلى تلك الأنسنة أكثر في القصص التي ترويها الميادين لا الصفحات، من كشاف أنقذ حياة، إلى وحدة أسهمت في دعم محتاج، إلى قائدة واجهت أهوال الحريق بشجاعة، مثل القائدة الجزائرية دنيا حلاسة التي جسدت أسمى صور الشجاعة في حرائق الطارف، أو كشافة ليبيا الذين فتحوا الطرق بعد العاصفة لإنقاذ الأرواح، أو حتى الكشاف الباكستاني فرمان خان الذي قدّم حياته وهو ينقذ آخرين من سيول جدة؛ هذه القصص ليست استثناءات، بل نماذج لما يجب أن تكون عليه روح الكشفية في كل ركن من هذا العالم.
ولا تكتمل الأنسنة دون تمكين الشباب داخل الحركة، فهم ليسوا فقط من يُطبق عليهم البرنامج، بل من يجب أن يصيغوه، ويعبّروا من خلاله عن طموحاتهم، وأفكارهم، وحتى شكوكهم وأسئلتهم؛ الصوت الشبابي حين يُحترم ويُحتضن، يُثمر انتماءً حقيقياً، ويُشعل جذوة المبادرة التي لا تنطفئ.
اليوم، والعالم يشهد تصدعاً في القيم وضموراً في المعنى، تقف الحركة الكشفية أمام اختبار جوهري: هل ستبقى مؤسسة تدريبية تقليدية، أم تتحول إلى رافعة تربوية تعيد للعالم إنسانيته؟ أنسنة العمل الكشفي هي الجواب الأخلاقي والتربوي لهذا السؤال؛ إنها ليست ترفاً تنظيرياً، بل ضرورة لضمان أن تبقى هذه الحركة العالمية صوتاً صادقاً في زمن الضجيج، وأن تبقى ميداناً لتشكيل الإنسان الذي يبني مجتمعه، ويصون بيئته، ويغرس الخير في كل من يلقاه.
الكشفية حين تُؤنسن، لا تبقى مجرد نشاط… بل تصبح أثراً.