كُتاب الرأي

قراءة في نداء المنكسر

الدكتورة سارة الأزوري

قراءة في نداء المنكسر

منذ سنين طويلة نُشر هذا النص في صحيفة الجزيرة،
ولا أدري كيف علِق نصٌ قديمٌ بذاكرتي، وظلّ هكذا مشدودًا بقلبي كل هذا الوقت.
جهلتُ قائله، لكنّي لم أجهل أثره.
كأنّه لم يُكتب إلا لأبقى أتذكّره.
لا أعلم لماذا،لكنه لم يتركني… ولا أنا أردتُ له أن يذهب!

يا ونتي ونّة كسيرٍ من الكوع
ونّة كسيرٍ طاح منزوع كوعه

ساقه غدا من مفصل الرجل منزوع
وتودّسته الخيل ساعة وقوعه

يصيح: “شيلوني!” ولا هو بمسموع
اللّيل جا، والذيب حاديه جوعه

الله من عينٍ بكت دم ودموع
دمعٍ تحدّر من عيونه تزوعه

الله من قلبٍ من الودّ مشلوع
شلعة غريسٍ من مثاني جذوعه

حالي كما ذيبٍ عوى عويّة الجوع
ومن عويّته بغت تحطم ضلوعه

ولا كما طفلٍ من اليتم مليوع
وحيدٍ تابوا به توالي ربوعه

أمّه وبوّه بحفرة القبر بأسبوع
وصبَح وحيدٍ والليالي تلوعه

ومن قلّة الوالي له الثوب مرقوع
تهامل دموعه…
( كلمتان أو ثلاثة من الشطر الاخير مفقودة ..

————————-
قراءة في “نداء المنكسر”

النص الذي بين أيدينا مرثيةٌ دامغةٌ مكتنزة بالأنين، تتشح بروح البادية وتتكئ على أعراف القول الشفاهي المتجذّر في البيئة النجدية، لكنها تتجاوز مجرد تصوير الفقد لتفتح أبوابًا واسعة على الألم الوجودي، وأزمنة الانكسار، والخذلان الذي لا يرحم.

منذ البيت الأول، يستنطق الشاعر الوجع بصوت جسديّ نابض:

“يا ونتي ونّة كسيرٍ من الكوع / ونّة كسيرٍ طاح منزوع كوعه”

إنّه لا يستعير الألم، بل يجسّده؛ لا يتزيّا بالمعاناة، بل يلبسها جلدًا وعظمًا. “الونة” ليست مجازًا، بل واقعة جسدية محسوسة. صرخة منتهَك فقد أحد أطرافه في سقوطٍ فجائعيّ. نحن لا نتعامل مع صورة شعرية باردة، بل مع تجربة حسّية مشحونة: الكوع منزوع، الجسد محطّم، الصوت مبحوح، والوجع مستقرّ في المفصل لا في اللغة.

وفي هذا البناء التراجيدي، تتضافر الصورة مع الإيقاع لتعميق الشعور بالعجز:

“يصيح: شيلوني! ولا هو بمسموع / الليل جا، والذيب حاديه جوعه”

الصرخة لا تجد صدى، ولا النجدة طريقًا. الليل يهبط كقدر، والذئب الجائع لا يترك فسحة للنجاة. الموت هنا ليس لحظة، بل مطاردة، والضعف ليس عارضًا، بل قدرٌ مرسوم.

ثم تأتي الثيمة المركزية الثانية: البكاء، لا كفعل فسيولوجيّ، بل كحالة روحية تنزف:

“الله من عينٍ بكت دم ودموع / دمعٍ تحدّر من عيونه تزوعه”

الدمع هنا ليس ماءً، بل دم ممتزج بالحياة، يُستفرغ كما تُستفرغ الروح من الجسد. لفظة “تزوعه” تقلب الصورة إلى طقس تطهّرٍ عنيف، حيث لا يعود البكاء رثاء، بل اختناق.

ثم ننتقل إلى القلب، موضع الودّ الذي خُلع من مكانه:

“الله من قلبٍ من الودّ مشلوع / شلعة غريسٍ من مثاني جذوعه”

الودّ هنا ليس مشاعر، بل غرسٌ عميق، يُنتزع بعنف من الجذور. الحبّ – في هذا العالم – لا يُترك في مكانه إلا ليُجتث.

ثم تتصاعد الصور وتنتقل من الخاص إلى الجمعي، من التجربة الفردية إلى الأسطورة الإنسانية:

“حالي كما ذيبٍ عوى عويّة الجوع / ومن عويّته بغت تحطم ضلوعه”

الذئب هنا لا يعوي ليُخيف، بل ليُستغيث. الجوع وجوديّ، يرتدّ إلى الداخل، ويفتك بالضلوع كما يفعل اليتم بالطفل لاحقًا.

“ولا كما طفلٍ من اليتم مليوع / وحيدٍ تابوا به توالي ربوعه”
“أمّه وبوّه بحفرة القبر بأسبوع / وصبَح وحيدٍ والليالي تلوعه”

الطفل هنا لا يواجه يتمًا فقط، بل طردًا من الجماعة، نفيًا من السياق الإنساني. القرى تبرأت منه، والليالي – وقد صارت كائنًا فاعلًا – تنهشه كما ينهش الذئب فريسته.

“ومن قلّة الوالي له الثوب مرقوع / تهامل دموعه…”

الختام لا يقدّم عزاءً، بل يؤكّد عجز الذات وانكشافها، جسديًا ومعنويًا. غياب الوالي هو غياب الاتّزان، وانهيار ما تبقّى من حماية. الثوب مرقوع، والدمع يهطل لا لأنه يُريد، بل لأنه لم يعُد قادرًا على الاحتمال.

أما الأنماط الإدراكية في النص فتتمثل في رؤية الجسد بوصفه موضعًا للانتهاك، والعاطفة كغرسٍ يُجتث، والزمن ككائن جارح، والصوت كنداءٍ لا يُجاب، والطفولة كعطشٍ للنور وسط عتمة لا ترحم. وهي جميعها تتقاطع مع تشوّقٍ إنسانيّ عميق إلى الاحتواء، إلى من يسمع الصوت ويرى الانكسار ولا يدير وجهه.

في المجمل:
هذا شعر لا يكتفي بتصوير الوجع، بل يعيد تعريفه. لا يرثي شخصًا بل يُجسّد سقوط الكائن الإنسانيّ حين يُترَك وحيدًا في عالمٍ بلا مجيب. هو نداء المنكسر، حيث الجسد والروح واللغة جميعًا تصرخ، لا رجاءً في النجدة، بل اعترافًا أخيرًا بالخذلان الكامل.

كاتبة رأي

 

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى