رفقًا… فكلّنا نُجهد بصمت

رفقًا… فكلّنا نُجهد بصمت
✍️ سلوى راشد الجهني
في زوايا الحياة المزدحمة، وتحت مظلة الواجبات المتراكمة، يمضي كل إنسان وهو يعتقد أنه الأكثر تعبًا، والأشد تحمّلًا، وكأن التعب حكرٌ عليه وحده، والراحة وزعت على من حوله دون حساب.
الزوجة تنظر للزوج فتراه لا يقدّر حجم ما تبذله داخل المنزل من مهام لا تنتهي.
الزوج ينظر للزوجة ويظن أن الجهد كله يقع على عاتقه خارج المنزل.
الموظف يرى أن المدير لا يفعل شيئًا سوى إعطاء الأوامر،
والمدير يرى أن الموظفين يتذمرون دون سبب، وينسون أنه يضغط على نفسه كل يوم.
الأخت ترى أن أخاها مرتاح، والأخ يرى أن حياته مليئة بالضغوط،
والجيران، والأصدقاء، والباعة، والعاملون، كلٌ منهم يحمل في قلبه نظرة مختلة عن الآخر.
لكن ما لا نراه هو أن كل شخص يخوض معركته الخاصة،
معركة لا تظهر في وجهه، ولا في نبرة صوته، ولا في هندامه الخارجي.
إنه الجهد الذي لا يُرى، والتعب الذي لا يُحكى، والضغط الذي لا يُعلن.
كلٌ يجهد، لكنه يصمت.
أظهرت أحدث الإحصائيات لعام 2025 أن 69٪ من الموظفين يقولون إنهم سيبذلون جهدًا أكبر لو شعروا بتقدير حقيقي من قادتهم، وأن 59٪ منهم يشعرون بأنهم لا يتلقون التقدير الكافي من مديريهم، مما ينعكس سلبًا على مستوى رضاهم وتحفيزهم في بيئة العمل.
المشكلة ليست في الجهد، بل في عدم تقدير الجهد.
ننتظر من الآخرين أن يفهموا ما نبذله، دون أن نحاول نحن أن نفهم تعبهم.
نحكم على النعمة عند غيرنا بأنها حظ، وننسى أن ما تراه اليوم نجاحًا ربما بُني على دموع، وخسائر، وخيبات، لا تراها أعيننا.
ولو رأيت ما مرّ به الآخر، لتراجعت عن ظنك بأنه مرتاح.
حين يخدمك عامل، أو موظف، أو زوج، أو جار، راعِ وقته، لا تُهدر طاقته.
قل له كلمة طيبة، “شكرًا، جزاك الله خيرًا”،
فهو بشر مثلك تمامًا… ليس آلة، ولا خادمًا بلا روح.
لا تقارن تعبك بتعب الآخرين، ولا تستهين بجهدهم.
فالإنسان لا يُقاس بما تراه منه، بل بما لم تَرَه ولم تسمعه.
القلوب مثقلة، والظهور محنية، لكن الكبرياء يمنع البوح.
حين تزاحم في إشارة أو طابور، ستجد كل من حولك يظن أنه الأحق،
أنه مستعجل، وظروفه لا تحتمل التأخير، وكأن الآخرين مجرد كومبارس في مسرح حياته.
لكن لو تذكر كل واحد منا أن كل شخص يحمل ظرفًا، أو همًا، أو موعدًا مهمًا…
لأصبحت الطوابير أكثر لطفًا، والطريق أكثر أمنًا، والحياة أكثر إنسانية.
قال رسول الله ﷺ: “من لا يشكر الناس، لا يشكر الله” (رواه الترمذي).
فاشكر حتى على أبسط ما قُدم لك.
وتأمل هذا الحديث الآخر: “استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود” (الطبراني).
لا تنشغل بالمقارنات، ولا تحسد أحدًا على خير تراه، فربما كانت وراءه أحمالٌ لا تُحتمل.
ربما ترى أحدهم ناجحًا، مرتاحًا، مبتسمًا…
لكن هل تعلم ما الثمن؟ هل تدري كم مرة سهر؟ كم مرة كُسر قلبه؟ كم مرة نزل ساجدًا يبكي؟
لذلك إذا رأيت خيرًا، فاذكر الله، وقل: “ما شاء الله، تبارك الله”، وادع له، لا عليه.
كلنا مشغولون، كلنا نركض، كلنا نُرهق.
لكن من أجمل صور الوعي أن تتعب… ولا تجعل تعبك سيفًا تؤذي به الآخرين.
كلنا نُجهد بصمت، فلا تكن من يَصمّ قلبه عن سماع أنين الآخرين.
كُن رحيمًا، متفهّمًا، شكرًا، مقدّرًا، ولو بكلمة، ولو بنظرة امتنان.
فالرفق لا يُكلّف شيئًا… لكنه يصنع كل شيء.
كاتبة رأي