رحلة دراسة حالة حوت الرايز
محمد يوسف الخشيبان
رحلة دراسة حالة حوت الرايز
بين المخاطر، السياسة، البيئة والصوت الأخير
ما بدا كمشروع علمي عن كائن مهدد بالانقراض، تحول تدريجيًا إلى تجربة إنسانية، علمية، وشخصية، فيها الكثير من التحدي والخوف، وأحيانًا… الشك.
كانت نقطة البداية عند البحر، حيث قضيتُ أيامًا على الشواطئ أجمع الملاحظات والمشاهدات الحية عن تواجد الحيتان وسلوكها في البيئات القريبة من مناطق التهديد. لكن المهمة لم تكن سهلة أبدًا. واجهت ظروفًا ميدانية صعبة من أمواج عالية خطرة، إلى الدخول في مناطق غير مأهولة تمامًا، وفي أحيان معينة تعرّضت لمواقف غير آمنة بسبب طبيعة البيئة البحرية وكائناتها.
بعد تجاوز التحديات الميدانية، بدأت مرحلة أصعب: جمع البيانات حول التسريبات النفطية وتأثيرها على الموائل البحرية. البيانات كانت إما غير منشورة، أو مخفية خلف عقود طويلة ومعقدة بلغة قانونية وفنية بحتة. لكن بعد التواصل مع أحد المختصين بالتدقيق بالعقود، الهنوف يوسف الخشيبان، بمساعدتها في تدقيق العقود والمستندات الحساسة، وقراءة البنود التي كانت ستأخذ مني وقتًا هائلًا وربما تتسبب في أخطاء تحليلية، وحتى بالتدقيق النحوي من قبلها بالخطابات الموجهه لطلب بيانات نفطية كان وجودها في هذه المرحلة كان عنصرًا حاسمًا في تجاوز واحدة من أكثر الحواجز تعقيدًا في مشروع حوت الرايز بخليج المكسيك.
وبعد تجاوز مشاكل جمع العينات وبعد بدأ الدراسة بأظهار نتائج حقيقية تم تجنب الأعلان عنها بالبداية رغم أن القضية كانت تستحق الوصول إلى المنابر الدولية، ورغم قدرتي – بفضل الله – على ذلك، إلا أنني اخترت في تلك المرحلة ألا أتواصل مع الجهات الرسمية المكسيكية بشكل مباشر، لأنني كنت أؤمن أن صوتي في ذلك الوقت يجب أن يبقى ضمن الإطار البيئي والبحثي، دون أن يُحمَّل بعدًا دبلوماسيًا أو سياسيًا.
لكن لاحقًا، ومن خلال لقاء خاص مع السفير المكسيكي في الرياض، عبر لي عن إعجابه العميق بما أقوم به، وأكد دعمه لي شخصيًا ولمشروع حماية الحيتان، وهو ما فتح أمامي آفاقًا جديدة في المستقبل للتعاون الدولي البيئي.
استطعتُ بعد ذلك ربط التأثيرات البيئية الواضحة في سلوك حوت الرايز، وتتبّع المؤشرات التي تدل على مدى تأثر هذا النوع من الكائنات البحرية بالتلوث الصناعي الناتج عن النشاط البشري، خاصة المرتبط بصناعة النفط. لكن رحلتي لم تكن فقط لحماية الحوت، بل كنت أبحث عن حلول عملية ومربحة أيضًا للقطاع الصناعي. كنت أؤمن أن الاستدامة لا تأتي من “الرفض”، بل من “البدائل”.
لذلك عملت خلال بحثي على استكشاف طرق وتقنيات تُمكّن شركات النفط من العمل في البيئات البحرية دون التسبب في أذى مباشر أو غير مباشر للحوت.
الهدف لم يكن فقط إنقاذ كائن، بل خلق نموذج اقتصادي وبيئي يوازن بين مصالح الأعمال وحقوق الطبيعة. هذا التوجه جعل من بحثي مساحة للربط بين العلم، والبيئة، والاقتصاد، والقرار الصناعي وهو ما جعلني أدرك أن حماية الكائنات لا تعني دائمًا الصدام مع الاقتصاد، بل بناء مساحات ذكية للاتفاق.
وبعد أن أنهيت الدراسة كاملة، شعرت أن الاحتفاظ بها في ملفات إلكترونية لا يكفي. قررت أن أُطلق مؤتمرًا خاصًا بي، أقدّم فيه نتائج الدراسة، وأفتح النقاش مع المجتمع العلمي والمهتمين بالشأن البيئي.
قمتُ بتنسيق المؤتمر بنفسي، من إعداد المحتوى إلى استضافة الحضور، وعرضت فيه تفاصيل البحث، من البيانات الميدانية وحتى تحليلات التسريبات النفطية.
كانت تجربة مرهقة، لكنها تستحق كل دقيقة. كان ذلك اليوم هو لحظة التحول من باحث خلف الشاشة، إلى شخص يقدّم قضية حقيقية أمام جمهور حقيقي.
هذه التجربة لم تكن فقط عن الحيتان أو المحيطات، بل كانت عن الصوت، صوت الكائنات التي لا تتحدث، صوت الأبحاث التي لا تُقرأ، وصوت الشغف حين يتحول إلى أثر. تعلمت أن المعرفة وحدها لا تكفي، بل لا بد من الإيمان بما تعمل لأجله، ومن التحمّل في سبيل أن يصل صوتك للعالم.
كاتب رأي

