الكتابة خارج حصار المعنى الواحد قراءة ثقافية لنص للشاعرة باسمة العوام

نحتاج دائماً أن تمتلئ ساحة الإبداع بما تتلاقى حوله الآراء متفقة تارة ومختلفة تارة أخرى..
عندئذ تتسع نورانيات الحوار الثقافي حول ألق تجليات جماليات كل إبداع مائز .
كتبت الشاعرة السورية الأستاذة باسمة العوام على صفحتها يوم ١٥ إبريل ٢٠٢٤ نصا شعرياً مدهشاً في حضرة صورة لفنجان قهوتها ، وتذكر الكلمات في عبارات النص أمورا تتصل باحتساء القهوة وما بعد عملية الاحتساء من قراءة الفنجان .
ولأنني من عشاق البـُن الفاتح المحوج ، وأن تكون قهوتي مضبوطة ، استجبت لدعوة النص والشاعرة ، حيث تصورت أن صديقتي الشاعرة باسمة العوام تدعوني بشكل متحضر للتتلاقي الثقافي والإبداعي على فنجان قهوتها على جميع مستويات التلقي الواقعي والفني والرمزي..
تقول الكلمات:
“ما أعددتُها يوماً لتقرأني عرّافة
أو لأتذكّر قصيدة خالدة
وليس لأدندن مع فيروز :
” بأيام البرد .. بأيام الشتي …”
أعدّها لأجل مرارتها
أخالني متكئة على شرفات البنّ
أرشف من خمرته قطرة قطرة
أهجر مدارات الفصول
فتثمل روحي ..
وترقص نشوةً بلا كأس !
هنا ينتهي النص ، حيث الرقص و النشوة بلا كأس وبلا شراب وربما بلا قهوة أيضا ، لكننا سنعده حقيقة شعرية الاكتمال في التحقق من اختيار القهوة لما فيها من إمرار، ربما لغياب الإحلاء!!
الشاعرة العزيزة باسمة العوام أنت أعددت فنجانك قهوتك المُر أبيا عصيا على مناوشة العرافة ، ربما لما تحتويه أنفاس كلماتك من أسرار.. المشروب قهوة سادة ، مُرة!!
شربت المر لغرض خاص أثير لديك ، لا لدندنة غنائية مع فيروز بأيام البرد أو بأيام الشتي ..عبارتك القائلة:
“ما أعددتها يوما لتقرأني عرافة
أو لأتذكر قصيدة خالدة”
رجوت لو أنني تحاورت مع باسمة العوام لأستعلم منها عن سر إعدادها فنجان قهوتها المر ، ولماذا تذكر في النص ، وبشكل صريح ، ما يشير إلى أن هناك سرا غير معلوم لديها قد دعاها لاحتساء قهوتها مُرة..
تذكرت هنا حوارا بيني وبين أستاذي الناقد الأدبي الكبير الراحل الدكتور صلاح فضل – رحمه الله – حول عبارات كان يكررها كثيرا في المحاضرات بكلية الآداب جامعة عين شمس قسم اللغهدة العربية ، وكان يتناول معنا صفحات كتابه المهم منهج الواقعية في الإبداع الأدبي
و أوضح أن الواقعية من أشد المذاهب الأدبية حيوية وأطولها عمراً، إذ إنها ولدت في منتصف القرن التاسع عشر. ومع هذا ظلت محافظة على قدرتها على التجدد والانبعاث وامتصاص ما في التجارب الأخرى من عناصر. ويعد الناقد الفرنسي جوستاف بلانش أول من استخدم مصطلح الواقعية في عام١٨٣٣.. وللآن نحتاج إلى قراءة نصوص تتخذ من الواقعية الرمزية منطلقاً للتعبير الشعري .
وقد حذرنا آنذاك الناقد الراحل د.صلاح فضل، في أواخر الثمانينات ، وكان الخطاب لمن لديهم النية في أن يخوضوا بعد التخرج غمار القراءة التحليلية و الدراسات النقدية ، حذرنا من أن نسأل شاعرا أو مبدعا عن مقصده الإبداعي ، أو عن الرسالة التي أراد التعبير عنها من خلال منطوقه النصي..
ليكن مالديكم من أسئلة موجهاً للغة التي كونت النص ، للبناء ، للأسلوب ، للمستوى التصويري والتخييلي والرمزي والصوتي إذا كان فاعلا مشاركا في إنتاج الدلالة النصية..
ومن ثم فإنني آخذ من كلمات النص ذلك الهاجس الرابض في المُر ، مع مراعاة غياب الإحلاء ، أتحاور مع كل كلمة في خيمة التخييل بالنص ، أدنو بتحضر من كنه هذا المُر ، لماذا إصرار النص على إعلان هذه المرارة ؟! ألا يعد هذا حافزاً لنا على أن نبحث عن الإحلاء ؟!
اللغه الشعرية في هذا النص تسمح بموجات لا نهائية من المعاني ، وتسمح لنا بأن نتتبع هذه الموجات باستقراء الرمز والجماليات والمكونات للنص. ولذلك نقف مليا عن سبب هذا المذاق المُر . فلا صيف رائق يستدعي الغناء مع فنجان قهوة ، ولا شتاء ، ولا حتى مدارات الفصول ، بل هو الخيال ، هو المنشود في غياب اللا محدود من المفقودات ، على مستوى الذات الشاعرة والذات الجمعية .
تقول الشاعرة :” أخالني”
هو تعبير لا يمنعنا من أن نقرأ خيالاً كهذا بعين ترصد وتحلل الإنتاج التخيلي في ضوء منتوجات هذا الواقع الإنساني القلق .
فالمبدعة والنص والمتلقي الحاذق في خيمة التخيل يقومون بإضافة المزيد من التجليات بكفاءة أدبية تعيد أحيانا تشكيل العمل بما يُستمد من معطيات هذا الواقع وبما يغذي النص وينميه بثقافة تمور في هذا العصر ، وأنماط الحياة فيه في حوار حيوي فعال في خيمة التخيل التي تذيب تلك المعطيات المتصارعة في أحيان كثيرة ، وتعتصرها لتستخرج منها أضواء الدلالة وتجاليات الجماليات .
وهذا جلي في هذه العبارة “أخالني متكئة على شرفات البن”
الاتكاء فعل لا يتم إلا في لحظات التعب التي يسرع فيها الإنسان إلى أقرب ملاذ يتكئ عليه ليستريح ثم يواصل نشاطه الخاص بلفت الأنظار إلى سطوة الإمرار وفقدان الإحلاء فتضطر الذات إلى أن تهاجر هجرة خارج حدود المكان والزمان:
“أهجر مدارات الفصول
فتثمل روحي
وترقص نشوة بلا كأس !”
للوصول إلى زمكانية غير مسبوقة تكشف عن معنى أن تصل القصيدة إلى أن يُهرب الشعراء رموزهم داخل خلايا التكتم فلا تستطيع تلك العرافة قراءة ما تبقى في أعماق الفنجان من أسرار .
الشاعرة لا يؤرقها أن تمنح قصيدتها معنى محددا.. لأنها تدرك أننا في لحظة ثقافتها تجعل المبدع والنص والمتلقي الغائص في خيمة التخيل النصي يصوغون التجليات بكفاءة أدبية تنطق العمل بما يُستمد من معطيات الواقع وبما يغذي النص وينميه بثقافة العصر وأنماط الحياة فيه ومؤرقاته
القراءة الثقافية تستطيع قراءة رمزية واقعية النص وهذا الحوار الحيوي الفعال بين النص والمبدع والقارئ الباحث عن العطاء المعرفي والثقافي والاجتماعي و الوجودي في خيمة جامعة للرسالة و للمرسِل والمرسَل إليه .وهذا لا يكون إلا إذا كان النص يحتوي على فيض من أضواء الدلالة وتجاليات الجماليات على هذا النحو الذي تجلى في هذا النص الشعري للشاعرة السورية باسمة العوام .
د.هشام محفوظ
بوركتم وسعدتم دوماً ، استقبالكم أحرفي بنبض الترحاب والإكرام على هذا النحو شاهد ودليل على اللامحدود من نبلكم وتقديركم المتحضر للكلمة والفكر ، للحاضر المشرق بالأمل في غد أكثر إشراقا..
دمتم في توفيق الله..
مهنية الصحافة أن تكون مُرحِّباً بمن يستحق الترحيب ويمتلك أسلوب الكتابة المُتَعَمِّقة بأمانة الكلمة وصدق العبارة الأدبية الجزلة التي تتأمل سطورها ويُثريك بلاغتها وأبعاد معانيها.
هكذا الأستاذ محمد على الفريدي رئيس تحرير صحيفة آخر أخبار الأرض الإلكترونية يُقدم لنا إطلالة للأديب الشاعر والناقد الدكتور هاشم حافظ.
محمد حامد الجحدلي
نائب رئيس التحرير