كُتاب الرأي

جيل يربّي جيلًا… أم شاشات تربي الجميع؟

جيل يربّي جيلًا… أم شاشات تربي الجميع؟

الكاتبة/ زايده علي حقوي

لا يخفى على الجميع ما يشهده العالم من ثورة تكنولوجية وتطورات متسارعة جعلت وتيرة الزمن تركض بنا نحو المجاراة والازدهار في شتى المجالات.
ومما لا شك فيه، أننا ندعم هذا التقدم ونفخر بما وصلنا إليه تحت ظل قيادتنا الرشيدة، ونسعى جاهدين لمواكبة العصر، مستفيدين مما سخرته لنا دولتنا من إمكانات وفرص.
لكن في ظل هذه الهيمنة التكنولوجية الشاملة، أغفلنا جانبًا مهمًا من التربية…
انعدمت لغة الحوار داخل أغلب الأسر، وبهت صوت التواصل الحقيقي بين أفراد العائلة.
فكلٌّ منشغل بجهازه، وكل لقاء عائلي تحاصره الشاشات، وتغيب عنه الأحاديث التي كانت يومًا تُنسج من دفء القرب ومشاركة التفاصيل.
هذا الانفصال الصامت داخل جدران المنزل، ولّد فجوة شعورية بين الآباء والأبناء، لم تعد تُسد بالاهتمام الرقمي أو العطاء المادي.
فالأبناء اليوم يحتاجون من يُنصت لهم لا من يُراقب، ومن يحتضن تساؤلاتهم لا من يُغلق الأبواب في وجوههم.
أصبحنا نراهن على الوقت لينضجوا وحدهم، وننسى أن النضج لا يكتمل دون حوار، ولا يُثمر دون تربية وجدانية قائمة على التفاهم والمشاركة.
ولا عذر لأحد في تحميل الأبناء كل اللوم، فالقدوة تبدأ من الكبار، والبيت هو أول مدرسة، والحوار هو أول درس في الحياة.
إن إعادة إحياء لغة الحوار داخل الأسرة لم تعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة.
فالحوار ليس فقط وسيلة تواصل، بل جسر يُبنى عليه الفهم والثقة والاحتواء.
حين تُتاح الفرصة لكل فرد في الأسرة ليُعبّر عمّا يشعر به، دون مقاطعة أو تهكم، فإننا بذلك نُنشئ بيئة آمنة تعزز الثقة بالنفس وتنمّي الذكاء العاطفي.
وأولى خطوات إعادة هذا الحوار هي الإنصات الحقيقي، والانشغال بالقلوب قبل الشاشات، وتخصيص وقت يومي أو أسبوعي يُعاد فيه نبض الحديث بعيدًا عن الأجهزة والانشغالات.
كما يسهم إشراك الأبناء في اتخاذ بعض القرارات الأسرية في تعزيز شعورهم بالقيمة والانتماء، ويعلّمهم أن الحوار ليس جدلًا، بل احترامًا وتبادل آراء.
لا يمكن إنكار أن الأجهزة الذكية تسللت إلى عقول أبنائنا ببطء حتى أصبحت ملاذهم الأول والأخير ورفيقهم الدائم في ساعات الفرح والوحدة.
ورغم ما تحمله من فوائد معرفية وتواصلية، إلا أن الإفراط في استخدامها أدى إلى انكماش مهارات التواصل الواقعي، وضعف التركيز، وأحيانًا ضمور في الخيال والتفكير النقدي.
بات الأبناء أسرى لعالم افتراضي يُملى عليهم، يُحدّد انفعالاتهم، ويُشكل مواقفهم، مما انعكس سلبًا على علاقاتهم الأسرية، وقدرتهم على التعبير عن أنفسهم، بل وحتى على نظرتهم لذواتهم والآخرين.
وكم هو مؤلم أن يُستبدل دفء الحديث العائلي بصمتٍ يُخيّم عليه وهجُ الشاشات!
ختامًا، في هذا الزخم الرقمي، تبقى الأسرة الحصن الأول، والمدرسة الأولى، والملاذ الأهم للأبناء.
وإن كانت التكنولوجيا قد فتحت لنا نوافذ على العالم، فإنها لا ينبغي أن تُغلق أبواب التواصل الحقيقي داخل البيت.
لنُعد إحياء لغة الحوار، ونعيد ترتيب أولوياتنا التربوية، ولنُمسك بأيدي أبنائنا قبل أن تسرقهم الشاشات من أحضاننا.
فالأمان العاطفي، والحوار الصادق، والاهتمام الحيّ هي الركائز التي تُبنى عليها أجيالٌ أكثر وعيًا وتوازنًا.

كاتبة وقاصة

زايده علي حقوي

كاتبة ومؤلفة وقاصة ومشرفة الخواطر والقصة القصيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى