منوعات
هوبال

هوبال
الكاتب: مفرح المجفل
المخرج: عبدالعزيز الشلاحي
مقدمة :
في الأسطر القادمة سيكون التحليل للقصة نفسها، بعيدًا عن التصوير المعبر واللافت للفيلم، سواء للبيئة الصحراوية أو لأبطال الفيلم وملابسهم وأدائهم الرائع.
قصة مليئة بالرمزية الجميلة، تسلط الضوء على جوانب فردية وأسرية واجتماعية كانت سائدة في المجتمع السعودي، كالتطرف الديني في حقبة التسعينيات، حتى أن الفكرة الأهم فيه هي التبعية العمياء (القطيع)، أو الاستلاب الفكري، حيث تُغلَق العقول وتُفتح الأبواب للسيطرة.
الفيلم مليء بالرموز، من أسماء الشخصيات إلى الأحداث والحوار وحتى مشاهد التصوير.
الهوبال: نداء السيطرة والتبعية
سنبدأ مع الرمز الأهم والأبرز والذي سُمي الفيلم باسمه:
الهوبال: هو نوع من أنواع حداء الإبل، يعتمد على كلمات وأهازيج يرددها الرعاة لقيادة الإبل وسوقها للمكان الذي يريده الراعي. ومن هنا تبدأ أحاديث الأب “ليّام”، والتي تعكس أفكاره في السيطرة على عائلته، كما يفعل الراعي مع إبله.
هذه الأفكار زُرعت في عقول عائلته، بأن المدينة شر تتعلق به النفوس، ولا بد أن ينعزلوا في الصحراء ولا يذهبوا إليها، فهي رمز للفتنة، مليئة بالفساد، الذي سيفسد دينهم. كما أنها من علامات قيام الساعة، ففيها البدو الحفاة الرعاة يتطاولون في البنيان. ومن هنا فرض الأب العزلة عليهم.
ولعل هذا المعتقد تكوَّن لديه لأن المدينة سبق أن أفسدته وارتكب فيها ذنبًا أنبه ضميره عليه، فخاف على أبنائه منها.
قد يكون الهوبال يُجسد خطاب الخوف من الحداثة الذي انتشر في المجتمعات المحافظة بعد أحداث 1990، حيث حُوِّلت المدن إلى رمز للغزو الثقافي في ذلك الوقت.
—
الهوبال والمشاهد الرمزية
تظهر مشاهد الهوبال في مواضع متعددة من الفيلم: في بدايته، ووسطه، ونهايته.
بدايته: تعبير عن الخضوع والطاعة.
وسطه: يمثل حلمًا في مشهد سينمائي مهيب، لرجل ينادي بالهوبال من أعلى قمة جبل محاطًا بجبال شاهقة، تظهر قممها من فوق السحاب. وتأتي الإبل طائعة نحو صاحب الصوت، وقد تطاولت أرجلها لتصل أعناقها إلى تلك القمم، في لحظات الغروب، حيث تظهر السماء مزدانة بألوان بديعة في الزاوية البعيدة. في تلك اللحظة يسقط شهاب من السماء، ويبدد الظلام، ويشع المكان نورًا.
وهنا تظهر السلطة للأب، والطاعة والانقياد حتى في الظروف غير المنطقية. وظهور الشهاب كان بداية الخلاص، فهو الذي أحرق الشياطين التي في عقولهم، والتي تسترق السمع من الأب؛ فالأب يمثل السلطة الأبوية اللاواعية، التي تقتل الأحياء بلا جرم مشهود، قتلاً معنويًّا ونفسيًّا وفكريًّا.
وفي آخر مشهد للهوبال: نسمع الصوت ونرى مجموعة سيارات تحمل من تبقى من أفراد العائلة متجهة إلى المدينة، وكأن الهوبال صادر عنهم. كناية عن حتمية التغيير والاتجاه لمصير مجهول، يجعلنا نتساءل:
هل سيستخدمون عقولهم؟ أم أنهم كالقطيع، الذي قد يتبع راعيًا آخر لمجرد أنه سمعه ينادي؟
وتُقدَّم المدينة هنا كثنائية رمزية:
مدينة الآثام؟ أم موطن الشفاء؟
هل المدينة فاسدة؟ أم هم العاجزون عن مواجهتها؟
هل الفساد والنقاء في داخلنا؟ أم في الخارج؟
التدين المشوّه والخطاب الديني السلطوي
المفهوم الديني المشوَّه ظهر في عدة نواحٍ، حيث تجلت رموزه في الاستغفار، الدعاء، والإمامة في الصلاة، وقراءة القرآن، ومنع التداوي من المرض، وشفاعة الأبناء عند الموت، وحتى التسبب بالقتل، والجزم بقيام الساعة.
فعندما يصبح السؤال الذي ينير العقول ذنبًا يستوجب الاستغفار، وعندما يصبح دعاء الكبار تهديدًا يفضي إلى الموت، وعندما يكون الإمام القائد للآخرين دنيء نفس، وعندما يقرأ المسيطر في الصلاة قول الله عز وجل: (فذكِّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر)، وعندما يُمنع العلاج ونرتقب موت الأبناء لندخل بموتهم الجنة، وعندما يصبح القتل اضطرارًا لمنع مخالفة الآراء، فإننا أمام تدين لا يُنقذ، بل يُدمّر.
أما جزم الأب بقيام الساعة وظهور علاماتها الصغرى والكبرى كالحرب، والذي ردده الأبناء أكثر من مرة، كما ردد المشايخ في خطبهم في المساجد مؤكدين أن الحرب من علاماتها الأكيدة، فقد جاء الرد الواضح والصحيح من العم “مرزوق” عندما قال: (الساعة حق، ولا يعلمها إلا خالقها).
وفي هذا إشارة إلى ادعاء علم الغيب، الذي لا يعلمه إلا الله: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي، لا يُجليها لوقتها إلا هو).
—
رمزية “الساعة”: القيامة النفسية والتغيير
هنا تظهر رمزية أخرى، فقد تكون قيام الساعة هي التغيير، نهاية حقبة وبداية أخرى، وقد تكون القيامة فعلاً قد قامت رمزياً على عائلة “ليّام”، وتبدلت الأحوال، وما أهوالها إلا الصراعات والصعوبات والتحديات والخسائر التي حدثت.
> “الساعة لا تقوم فقط في السماء، بل في عقول من يرفضون أن تتغير الحياة. والخلاص يبدأ حين نكفّ عن الخوف من السؤال.”
فالساعة الحقيقية ليست نهاية العالم، بل موت الأوهام، وانكسار قيود الخوف، وتحطيم المألوف لعيش التغيير الجديد. وكأنها لحظة الخروج من عنق الزجاجة، مع ما يرافقها من المعاناة.
الحرب وصافرات الإنذار كانت رمزًا يشير إلى انفجار الصراع الداخلي، والحراك نحو التغيير، نذيرًا بتحطيم الخرافات والمعتقدات لجميع أفراد العائلة.
—
الزمن والجمود: خطر الثبات
مشهد دخول “عساف” و”ريفة” إلى الكويت، عند دوار به ساعة تدور عقاربها قائمة على عمود، والخطيب يقول: “عباد الله، اقتربت الساعة…”. الزمن يتحرك، والسيارات حولها تتحرك… الساعة التي يريد البعض إيقافها تمضي، فالجمود موت، والحركة شرط للحياة.
التواريخ التي يدونها المعلم على اللوح في الصحراء، والتواريخ التي تُكتب في شاشة الفيلم، كلها تشير إلى أن الزمن لا يتوقف، وأن الإنسان يجب أن يتحرك معه. فمن يظل بلا حراك يصبح كـالماء الآسن، نتن، ينقل الأمراض والأوبئة، ويجلب الموت لمن شرب منه.
> الوقت يمضي، والزمن يتبدل، وما كان صالحًا في زمانٍ ما، يصبح غير صالح في زمن لاحق.
(لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).
—
التسلّط والازدواجية: القيد الداخلي
التسلّط أوجد الازدواجية في الشخصيات:
الجد “ليّام” هو الراعي الذي يحمي من الذئب، وهو الذئب الذي اغتالهم.
أحد الأبناء لديه عائلتان: واحدة في الصحراء، وأخرى سرية في المدينة، ويعيش في تناقض تام بين العائلتين.
الآخر يتكلم وهو نائم، ينادي أخاه الذي كان السبب في قتله، ويعجز عن الكلام في اليقظة.
و”عساف” يُكثر من السؤال عن الشهب، يراها في كابوس تنير الظلام، وتكون “الدحل”، لترتبط عنده بالموت، الذي حرمه من والديه، وكان الموت كشهاب يحثه على التغيير.
……
الدحل والشهاب: طريق التنوير
الدحل: الذي اختفى فيه الجد، والمعتقد أنه بفعل الشهب، تلك الشهب التي ترجم الشياطين الذين يسترقون السمع، ما هي إلا رمز لأحداث تُنير العقل وتحرق الأفكار الضالة التي سرقناها من الآخرين بلا وعي.
> (يُقال إن من يدخل الدحل يخرج من دحلٍ آخر.)
دخول الجد، وخروج العائلة إلى المدينة، يُمثّل تحولاً: الشهب التي تحرق الشياطين تصنع ممرات للتغيير.
فالدحل فجوة في العقل يجب سبر غورها، هو غوص في الذات لاكتشافها، ليرى بعين قلبه ما لا يراه الآخرون.
…..
رمزية الماء والحياة
إراقة الماء من صهريج المياه (الوايت) كذريعة للعودة إلى المدينة، تُقابل بإراقة الحياة وإهدارها في الصحراء، لإيجاد حجة مقنعة للذهاب إلى المدينة.
يتهمون الإبل بأنها من أهدرت المياه، وهم في الواقع الإبل التي تتصرف بلا وعي.
……
المرآة: انعكاس وتبادل أدوار
السلطة الذكورية العالية على النساء والأطفال كُسرت بالحب والرحمة في قلوبهم، وكانت محفزة لهم على كسر القيود والبحث عن الخلاص، عندما أدركت النساء أن الراعي هو الذئب، وأن القيود في أفكارهم، وأدرك الأطفال أنهم يسيرون في طوابير الموت.
في مشهد غناء النساء احتفالًا بخطوات الطفل، رغم الموت والفقد والخوف، كانت تلك لحظة مقاومة ناعمة؛ فخطوات الطفل الأولى كأنها خطواتهم الأولى للخلاص، والتي كانت تستحق الاحتفال.
—
المرآة وتبادل المصير
في أحد المشاهد، ينظر “عساف” و”ريفة” في مرآة، يرى كلٌ منهما صورته مع الآخر. رغم أنها كانت مريضة، محبوسة، وهو في الخارج، إلا أن صورتهما متطابقة. لاحقًا، يمرض “عساف” ويُحبس. المرآة لم تكذب: كانا انعكاسًا لبعضهما في الدور والمصير.
“عساف” كسر القيود وأنقذ “ريفة” من الموت، و”ريفة”، عندما مرض “عساف”، تحاول إنقاذه، وتكسر القيود بمحاولة فعلية لإنقاذه من الموت، تمامًا كما فعل معها.
تبادل الأدوار، والذي ظهر في انعكاس الصورة في المرآة، ما بين الذكر والأنثى، والمرض والصحة، والحبس والحرية، يوضح تبدل الحال والتغيير الحادث لا محالة، والمصير المشترك الذي يطالهم جميعًا.
—
جمالية اللغة واقتباسات معبّرة
جمالية اللغة في عكس التناقضات وكشف المعاني تظهر في حوار الشخصيات بشكل مميز، وانتقاء الكلمات بشكل مركّز وبليغ، كما في الاقتباسات التالية:
“لا توجعني بكلام يوجعك… إذا كان لسانك يتحالى الكلام المر، ترى سمعك ما هو بمتحمّل بعض الكلام لا مرّ.”
“يتيمة من أنت أبوها؟”
“كل حر يحط بيده قيد، وكل عبد يحط له دون ربه رب.”
“إلى متى وحنا نهرب من الذيب للراعي؟ وكل واحد يبى عشاه منا؟”
“ما يسر وصف العمى للضرير… وما يفيد وصف البصير للضرير.”
وهنا ضرورة إعادة النظر بالمسلمات، فهذه العبارات تشير إلى أن القيود التي نظنها خارجية، غالبًا ما تسكن في داخلنا؛ وتحرير العقل هو أول الطريق نحو النجاة.
—
الخاتمة الرمزية
القصة تبدأ بالانصياع للهوبال، ثم شهاب يُنير الظلام، ثم دحل يكون فجوة في العقل عبر الجميع خلالها، بصراعات في الداخل والخارج، لأحداث واقع جديد ومختلف عن السابق.
هذه الروعة في التعقيد تمنح هوبال قيمة فنية تخترق الزمن، وتجعله نموذجًا للسينما التي تدعو المشاهد إلى التحرر من بعض الخرافات السائدة، والأوهام الجماعية، وتفعيل التفكير الناقد.
> فالماء الراكد يفسد، وكذلك العقل إن لم يتحرك.
الهوبال في عصرنا الحالي في كل مكان، في السوشال ميديا، التي تغزونا في قعر بيوتنا، وتجعلنا قطعانًا من الإبل، كل منها يتبع ذئبًا متنكّرًا بزي الراعي المحب.
هوبال دعوة لنا بأن ننتبه للأصوات من حولنا التي تدعونا للانصياع، يدعونا لأن نغوص في أعماقنا، ونستخدم عقولنا في خلاص أنفسنا من الضياع.
> ونختم بقول الله عز وجل:
(بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره)
ماشاء الله تبارك الله
👏👏👏👏
مبدعة