كُتاب الرأي

التغافل مُفيد أحياناً !!!

 

أثناء خدمتي السابقة تكلفت بالعمل في منطقة حدودية بعيدة بعض الشيء عن مسقط رأسي ، وسكن عائلتي التي بدأت تكبر ، وتتحدد أهدافها المستقبلية وهم في أمس الحاجة لتواجدي بقربهم ، ولكنها خدمة الوطن التي يجب أن نؤثره على أنفسنا ونضحي من أجله مهما كانت الظروف .

في تلك الأثناء بدأت العمل في بيئة جديدة وأشخاص جدد من مختلف الرتب بعضهم لم يسبق له العمل معي بتاتاً ، وكان من ضمن الموظفين ضابط نشيطٌ جداً ، وناجحٌ في عمله ، وكان يقوم بكل ما يطلبُ منه بذكاءٍ وسرعةٍ ودقةٍ ، كما أنه يحقق نسبةَ إنجازٍ عاليةً .
لكنه كان يتأخر عن زملائه في الحضور أكثر من نصف ساعه يومياً ، كما أنه كثير الإستئذانات وطلب الإجازات ، في الوقت الذي كان زملاؤه الآخرون يحاولون جاهدين إبداء محاسنهم وتحسين صورتهم في نظر القائد الجديد !!!

ذاتَ مرة تقدّم ذلك الضابط بطلب إجازة ليسافر لزيارة أقاربه .. لكنني إستدعيته وسألته عن أسباب ما لاحظته من ملاحظات عليه ، واتضح لي أنه العائل الوحيد لأسرته ، وأن أخيه الأصغر يمر بظروف صحية صعبة جداً، وقد حاول التغلب عليها فلم يتمكن من ذلك ، كما أنه طلب النقل الى منطقة أخرى يتوفر فيها علاج أخيه ، ورغم ماقدم برفقة طلبه من أوراق ثبوتيه لم يساعده أحد بحجة ما عليه من ملاحظات أشرت إليها آنفاً !!!

وعدته بمساعدته قدر الإمكان والسماح له بمتابعة حالة أخيه متى ماإحتاج الى ذلك وغض الطرف عنه والسعي لدى القيادة العليا للموافقة على نقله بشرط الإستمرار في العطاء وتلافي الملاحظات كلما وجد إلى ذلك سبيلاً .

شكرني على ذلك ووعدني بتحقيق أكثر مما طلبته منه وكنت أتحاشى مراقبته وأتغافل عن ملاحظاته التي إنحسرت كثيراً بفضل مقابلتي السابقة له ورفع معنوياته ومشاركته الوجدانيه في ظروفه .

لكن ماذا حصل نتيجة لذلك ؟!!!

بعد أيامٍ عَدَل الضابط عن طلب النقل وأجّل طلبه إلى عامٍ قادم بفضل ما تحقق له من بيئة عمل مناسبة وفرص تحفيزية مواتية وقام بجهود مضاعفة لتطوير العمل في القسم المسؤول عنه .

يومها اكتشفت أنَّ بعض ما نخسره في حياتنا ، يكون بسبب التضييق على الآخرين ، والتدقيق في كل صغيرة وكبيرة وعدم التغافل عن بعض الزلات البسيطة ، ووجود حواجز كثيرة بين الرئيس والمرؤوس ،
مما يجعل الطرف الآخر أمام خيارين :
– إما أن يتهربَ مِنك ، وتَخسره..
– أو يتخذك عدواً ، فيكيدُ لك ، ويستغفلك ، ويصبح شغلك الشاغل الذي يستنزف طاقتك ويشل تفكيرك عما سواه.

وفي كلا الحالتين ستكونُ خاسراً !!

لذلك أجدُ من المناسبِ أن تختارَ اللحظةَ المناسبة، لتسمحَ للطرفِ الآخر أن يتراجَع أو ينصرف عنك بِكرامة ، فبعضُ التغافل مفيدٌ جداً…

ولن تكون منتصراً فعلياً فيما لو كشفتَ المرء أمام نفسه وزملائه ومرؤوسيه حد التعرية ، حيث لن يجد بُدّاً من المواجهة عناداً ، أو الإنسحاب تكتيكاً، وكِلا الأمرين غير مقبول وغير صحي وسيكون سبباً في مشاكل أخرى مع بقية الموظفين .

التّغافل وغض الطرف مع قليل من التلميح هو المحفز لكثير من أرباب الأخطاء وقليلي العطاء لإنتشالهم من دائرة الإختفاء إلى دائرة الأضواء .

وتذكر أن :-
الأفضلُ دائماً أن تفتحَ لفريق عملك طريقاً يُبْدِع فيه ويرى نفسه ناجحاً فيحترمُك ، بدل أن تُحرجه وتوبخه فيُعادِيك ..

زبدة القول :-
من الأفضل أن تكسب الجميع ولو بنوع من التغافل الذكي والتجاوز اللائق وغض الطرف ، وذلك ليس غباء ولا ضُعْف ، بل هو منتهى الذكاء والفطنة .
دمتم بخير .

كتبه ✍
عبدالله بن سالم المالكي
كاتب رأي ومستشار أمني

عبدالله سالم المالكي

لواء.م - كاتب صحفي - مستشار أمني

تعليق واحد

  1. أحسنت أحسنت… نعم التعامل مع البشر بمختلف عقلياتهم وطباعهم وأخلاقهم وظروفهم يحتاج إلى صبر، وأحيانا إلى تغافل متعمد لتستمر علاقتنا بهم، ويقوم العاملون معنا بعملهم على الوجه الأكمل.
    موضوع مهم سعادة اللواء عبد الله المالكي، وطرح مميز ينم عن خبرة طويلة في هذا المجال، سلمت الأنامل، والي مزيد من الإبداع، ومن مثل هذه الرؤى، والتقدم.
    تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى