في ظلال المشهد المسرحي

**المسرح مابين الفكرة والخشبة **

 

**المسرح مابين الفكرة والخشبة **

يُعدّ المسرح أحد أقدم الفنون وأكثرها تأثيرًا في الإنسان والمجتمع، وقد ظل منذ بداياته الأولى وسيلة للتعبير عن قضايا الإنسان، ومحاولة لفهم العالم من حوله. غير أن المسرح لا يولد على الخشبة، بل يمر برحلة طويلة تبدأ من فكرة تتكوَّن في ذهن الكاتب أو الفنان، وتتشكّل عبر مراحل متعددة، حتى تُجسَّد حيّة أمام جمهور يتفاعل معها في لحظة آنية لا تتكرر.

كل شيء يبدأ من الفكرة، وهي لحظة الإلهام الأولى. قد تكون الفكرة موقفًا معينًا، أو سؤالًا فلسفيًا، أو حدثًا واقعيًا، أو حتى مشهدًا عابرًا في الحياة. في المسرح العربي، كثيرًا ما انطلقت هذه الأفكار من الواقع العربي الملتهب، كما فعل الكاتب السوري سعد الله ونوس في مسرحياته التي انشغلت بأسئلة الحرية والسلطة، حيث تحولت الفكرة إلى مشروع مقاومة فنية وثقافية. كما سعى العديد من المسرحيين الخليجيين إلى تحويل مشكلات مجتمعاتهم إلى أفكار مسرحية جريئة، كما في أعمال المسرحي الكويتي الراحل صقر الرشود، الذي جعل المسرح وسيلة للتنوير الاجتماعي، وقدّم أعمالاً تركت أثرًا عميقًا على الأجيال التالية.

عندما تتبلور الفكرة، تبدأ مرحلة الكتابة المسرحية. في هذه المرحلة، يتولى الكاتب تحويل الفكرة إلى نص درامي، يتضمن شخصيات، وحوارات، وأحداثًا، وصراعًا، وحبكة، ونهاية. يكتب الكاتب المسرحي وهو يتخيل الممثلين وهم يتكلمون ويتحركون. وقد تنوعت تجارب الكتّاب المسرحيين العرب في هذا المجال، من توفيق الحكيم الذي طوّر المسرح الذهني، إلى يوسف إدريس الذي قدّم واقعية اجتماعية لافتة، كما برز في منطقة الخليج كتّاب امتلكوا أدواتهم الفنية وقدّموا نصوصًا ذات خصوصية، مثل الكاتب القطري عبد الرحمن المناعي، الذي زاوج بين التراث البحري والحياة الاجتماعية المعاصرة، والكاتب السعودي فهد ردة الحارثي، الذي كتب نصوصًا حديثة تتميز بالرمزية والطرح الوجودي، وتعدّ من التجارب السعودية المتقدمة في الكتابة المسرحية.

يأتي بعد النص دور المخرج، وهو القارئ الأول للنص من زاوية بصرية، والذي يمتلك مهمة تحويل الكلمات إلى صور حية. يشتغل المخرج على فهم النص، واستخلاص الرؤية العامة للعرض، ويبدأ في تكوين فريق العمل المسرحي من ممثلين، ومصممي ديكور، ومهندسي إضاءة وصوت. وقد أبدع العديد من المخرجين الخليجيين في هذا المجال، منهم الفنان البحريني خليفة العريفي، الذي عمل على مسرح يعكس نبض الإنسان الخليجي، والمخرج الكويتي عبد العزيز الحداد، الذي أسهم في إخراج العديد من العروض ذات الطابع الكوميدي والاجتماعي، وترك أثرًا مهمًا في المسرح الجماهيري. أما في السعودية، فقد برز المخرج المسرحي أحمد الأحمري، الذي جمع في رؤيته الإخراجية بين الحس الشعبي والمعالجة الجمالية الحديثة، كما تميز المخرج القطري حسن إبراهيم بتقديم عروض مسرحية توازن بين التجريب والهوية.

ومع اكتمال التحضيرات، تبدأ البروفات، وهي المرحلة التي يُعاد فيها خلق النص من جديد عبر التفاعل الجماعي بين المخرج والممثلين. تتنوع البروفات بين قراءة النص، وتحديد الحركات، وتجريب الإيقاع، واختبار المؤثرات البصرية والصوتية. وقد أولى العديد من مسرحيي الخليج هذه المرحلة اهتمامًا خاصًا، إدراكًا منهم لأهميتها في صقل الأداء، واكتشاف إمكانات جديدة للنص. وفي هذا السياق، يُذكر أن كثيرًا من العروض التي نالت جوائز على مستوى الخليج والعالم العربي، وُلدت من ورش عمل مستمرة بين الفريق المسرحي، وليس من نص مغلق.

وأخيرًا، تصل المسرحية إلى الخشبة، حيث تُعرض أمام الجمهور. وهنا يتحقق المعنى الأعمق للمسرح، بوصفه فنًّا حيًا يقوم على التفاعل المباشر. كل عرض يختلف عن الآخر، فالجمهور شريك في صناعة اللحظة المسرحية. وقد شهد المسرح الخليجي عبر العقود الأخيرة بروز عدد من الممثلين المبدعين الذين تركوا بصماتهم على الخشبة، مثل الفنان الكويتي سعد الفرج، الذي يُعدّ من أعمدة المسرح السياسي والاجتماعي، والممثل البحريني إبراهيم بحر الذي قدّم أدوارًا مؤثرة بتجسيده للشخصية الخليجية المعاصرة، والممثل القطري علي حسن، الذي تميز بالحضور القوي والأداء السلس، إلى جانب الممثل السعودي راشد الشمراني، الذي جمع بين الحس المسرحي والقدرة على النقد الاجتماعي الساخر.

وهكذا، فإن العمل المسرحي ليس وليد مصادفة أو ارتجال، بل هو حصيلة مراحل متكاملة من الإبداع والتفكير والتجريب، تبدأ من لحظة تأمل صامتة، وتنتهي بتصفيق الجمهور على خشبة مضيئة. وما بين الفكرة والخشبة، يكمن سرّ المسرح: كونه فنًا جماعيًا حيًا، لا يكتمل إلا حين يلتقي الخيال بالواقع، والكلمة بالجسد، والفنان بالجمهور. وتبقى التجربة الخليجية، بكل تنوعها، شاهدًا على قدرة المسرح العربي على التجدّد والابتكار رغم التحديات.

بقلم د. عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب مسرحي

 

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى