خدمات الحجيج في المملكة .. بين بساطة الأمس وتطور اليوم

د. عبدالإله محمد جدع
خدمات الحجيج في المملكة .. بين بساطة الأمس وتطور اليوم
لطالما شكّل الحج أحد أبرز الشعائر الدينية والإنسانية في العالم الإسلامي، حيث يتوافد الملايين من المسلمين إلى مكة المكرمة لتأدية الفريضة المقدسة. وبينما ظلّ هذا الحدث مرتبطًا على مدى قرون بالتعب والمشقة والصبر، شهدت المملكة العربية السعودية تحوّلاً كبيرًا في طريقة إدارة وتنظيم خدمات الحج، خصوصًا خلال العقود الأخيرة، وصولًا إلى طفرة رقمية وخدمية غير مسبوقة في ظل رؤية المملكة 2030.
الحج في الماضي: مشقة الرحلة وبساطة الخدمة
في الماضي، كانت رحلة الحج تبدأ قبل الوصول إلى مكة نفسها، حيث كان الحاج يقطع آلاف الكيلومترات برًا على ظهور الجمال أو عبر السفن الشراعية، مستغرقًا شهورًا محفوفة بالمخاطر. لم تكن هناك وسائل راحة، ولا مرافق صحية أو إسكان مناسب. الاعتماد كان كبيرًا على إمكانيات وقدرات أرباب الطوائف من مطوفين في مكة المكرمة، ووكلاء المطوفين في جدة، والزمازمة بمكة، والأدلاء بالمدينة المنورة، والجهات الأخرى المحلية في توفير الماء، الطعام، أو الإيواء. أما التنظيم فكان بسيطًا ومحدودًا، يعتمد على الاجتهادات الفردية والجماعية، ما أدى في كثير من الأحيان إلى حوادث ازدحام أو فقدان.
التحول الحديث: من التنظيم المحلي إلى الإدارة المركزية
بدأت ملامح التغيير تظهر مع تأسيس المملكة العربية السعودية، حيث وضع الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود خدمة الحجاج في مقدمة أولوياته. تأسست الجهات الحكومية المعنية بالحج، وتطورت تدريجيًا لتصبح منظومة إدارية متكاملة. جرى توسيع الحرمين، ورُصفت الطرق، وأنشئت المستشفيات والمراكز الأمنية والخدمية، ما جعل من موسم الحج مشروعًا وطنيًا ضخمًا.
ثورة النقل والبنية التحتية: من الجِمال إلى القطارات السريعة
واكب هذا التطور في الإدارة نقلة نوعية في وسائل النقل، التي كانت فيما مضى تعتمد على الجمال والقوافل البرية. مع مرور الوقت، دخلت السيارات الصغيرة والحافلات الكبيرة التي نظّمتها شركات مرخّصة لنقل الحجاج، مما سهّل التنقل نسبيًا. ثم جاءت الدولة لتقود تحوّلًا جذريًا تمثّل في إنشاء شبكة طرق حديثة تربط مكة بالمشاعر المقدسة، والمدينة المنورة، وجدة، مدعومة بالجسور والأنفاق التي حققت انسيابية عالية، خصوصًا في المواقع الحرجة مثل منطقة رمي الجمرات، التي أعيد تصميمها لتكون متعددة الطوابق وأكثر أمنًا.
وقد توّج هذا التحول بإطلاق قطار المشاعر المقدسة، الذي وفّر وسيلة نقل فعّالة ومنظمة بين منى، مزدلفة، وعرفات، ثم قطار الحرمين السريع الذي يربط مكة والمدينة مرورًا بجدة ومطار الملك عبدالعزيز الدولي، مما جعل حركة الحجاج أكثر سلاسة وسرعة، وخفّف من الازدحام في الطرق والمداخل.
القفزة الرقمية: الحج في عصر التكنولوجيا
في السنوات الأخيرة، وتحديدًا مع انطلاق رؤية السعودية 2030، أصبح الحج تجربة مدروسة تُدار بمنظومة رقمية متقدمة. أطلقت وزارة الحج والعمرة تطبيقات ذكية مثل “اعتمرنا” و”نسك”، التي تمكّن الحجاج من الحجز الإلكتروني، ومعرفة مساراتهم، وجدولة نسكهم بسهولة. كما أدخلت السعودية تقنيات الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار لمراقبة الحشود، وإدارة المرور، وتحسين الاستجابة الطبية.
خدمات طبية وأمنية تضاهي كبرى الدول
يُقدّم للحجاج اليوم رعاية طبية فورية ومجانية، تشمل المستشفيات الميدانية والعيادات المتنقلة والكوادر المدربة. أما الأمن، فقد أُسند إلى فرق متخصصة تستخدم أحدث الوسائل التقنية لمتابعة الحشود وضمان سلامتهم، دون تعطيل الجانب الروحاني.
رؤية المملكة 2030: الحج كقيمة حضارية وعالمية
ضمن رؤية 2030، تسعى المملكة إلى تعزيز جودة الخدمات المقدمة للحجيج، وزيادة الطاقة الاستيعابية للمشاعر، مع الحفاظ على البيئة، والتراث الإسلامي، وتحويل الحج إلى تجربة روحانية آمنة وميسّرة تعكس مكانة السعودية كقبلة للمسلمين.
خاتمة: من مشقة إلى تيسير
إن رحلة الحج التي كانت فيما مضى مغامرة محفوفة بالتعب والخطر، أصبحت اليوم تجربة منظمة، تحكمها الدقة والرعاية، مدعومة بأحدث ما توصلت إليه التقنية، وبعقول سعودية تدير الحدث بروح المسؤولية والإخلاص. وبين الأمس واليوم، تتجلى قصة نجاح عنوانها:
“خدمة الحاج شرف لنا”.
كاتب رأي