كُتاب الرأي

حين يصحو ضمير العدو

محمد الفريدي

حين يصحو ضمير العدو

في زمن سقوط الأقنعة، جاءت نتائج استطلاع “موزاييك يونايتد” كطلقة في صدر الصهاينة: ثلث الشباب اليهودي في الخارج يتعاطفون مع أهالي غزة، و36٪ منهم يرون في ما تفعله إسرائيل إبادة جماعية.

لم يعد الكذب الإسرائيلي مقنعا حتى لأبنائه، فالجيل الجديد من يهود الخارج، تحديدا في أميركا، لا يرى العالم بعدسات الدعاية الصهيونية، بل من خلال المذابح الحقيقية اليومية في غزة.
يرون المستشفيات تُقصف، والأطفال يُدفنون جماعيا، والنساء يُذبحن تحت ركام البيوت، ويسألون أنفسهم بصدق: من الإرهابي؟ ومن الضحية؟

هذا ليس تعاطفا مع “حماس”، بل انتصارٌ للإنسانية، وجاء من حيث لا نتوقع.
جيلٌ تربى على يد “الناجين من المحرقة” وصار اليوم يرى إسرائيل مجرمة حرب، لا ملاذا للضعفاء.

لقد أفلتت الرواية من قبضة كُتّابها، وسقطت أقنعة “الدولة الأخلاقية” و”الجيش الأنقى” حين تحولت غزة إلى مختبر يومي للقصف والتجويع.
الشباب اليهودي الأمريكي – وهم الأكثر تعليما وتأثرا بمنصات الإعلام العالمية – بدأوا يرون إسرائيل كما هي: مشروع عنصري متغّول ، يعيش على أكاذيب الماضي وابتزاز الضمير العالمي.
%44 منهم يرون أن تل أبيب ترتكب إبادة جماعية، ليس لأنهم تعاطفوا فجأة مع غزة أو “حماس”، بل لأنهم يرون بعيون حرة وضمير لم يُمسخ بعد بأكاذيب الجيش الإسرائيلي.

اليوم لم يعد السؤال: “من يدعم إسرائيل؟” بل: “من يجرؤ على تبرير ما تفعله دون أن يسقط أخلاقيا؟”، فلم يعد ممكنا أن تبقى فظائع الحرب محجوبة خلف شعارات “الحق اليهودي في الأرض” أو “أمن دولة إسرائيل”.

صواريخ الاحتلال لم تُسكت المقاومة، لكنها فجّرت وعيا آخر في قلوب من كانت تظنهم إسرائيل مخزون دعمها الأبدي.
فها هم الشباب اليهودي في الخارج لا يصمتون، لأنهم أحرار من الخوف، ويعيشون في مجتمعات لا تسجن من يجرؤ على القول إن إسرائيل تقتل الأبرياء.

الجيل الجديد لا يقدّس العلم الإسرائيلي، ولا يخاف من نقده، ولا يعنيهم إرث بن غوريون، ولا تهمهم نبوءات التوراة المزورة.
يرون الحقيقة بلا مرشحات قومية، ويكتبون على جدران الضمير: نحن لسنا أنتم.

هذه الأرقام ليست رأيا عابرا، بل دليل على أن إسرائيل تفقد دعمها الأخلاقي أولا من داخلها، من شبابها، من أبناء ثقافتها.
حين يبدأ أبناء البيت في تكسيره، فاعلم أن الكذبة الكبرى بدأت تنهار.

أن يتحدث شباب يهود في أمريكا عن “إبادة جماعية” في غزة، ليس مجرد اصطلاح قانوني، بل شهادة مُوقعة بالدم والصورة على أن إسرائيل لم تعد قادرة على إخفاء جرائمها.
لم تعد كاميرات الاحتلال قادرة على التلاعب بالرؤية، ولا بيانات جيش الدفاع تحجب المجازر.

العدالة تتنفس من أفواه أبعد الناس عن فلسطين، ليس لأنهم فجأة أصبحوا أنصار “حماس”، بل لأنهم فهموا ما لم تفهمه حكوماتهم: أن المذابح لا تبررها صواريخ، ولا يمكن لاحتلال أن يدّعي “الدفاع عن النفس” وهو يهدم البيوت على رؤوس أصحابها.

نحن أمام نقطة تحوّل خطيرة في الوعي اليهودي، وعلينا — كعرب ومسلمين وكتّاب — أن نلتقط هذه اللحظة وندرك أبعادها.
العدو لا يسقط من الخارج فقط، بل حين ينقسم داخليا، ويتآكل وجدانيا، ويصبح غير مقنع حتى لأتباعه.

وهذا بالضبط ما يحدث الآن: إسرائيل تخسر الحرب الأخلاقية في عيون أبنائها، وحين تسقط أخلاق المحتل، يبدأ الزمن في كتابة صفحة النهاية.

فهل ستبقى حكوماتنا صامتة؟ وهل سيظل إعلامنا العربي خجولا، يوازن بين القاتل والمقتول؟ وهل نستمر في ترديد روايات “التعايش والسلام” و”التطبيع” و”البيت الإبراهيمي”، بينما يُدفن أطفالنا أحياء كل صباح؟

الحق لا يحتاج إلى من يموّهه تحت لافتات الحياد، بل إلى من يتكلم باسمه بصراحة وجرأة.

اللافت اليوم أن من يرفض الصمت هم شباب من أبناء اليهود، بينما يغرق كثير من مثقفينا في محاضرات “العقلانية” و”الحياد السياسي”، وكأنهم يعيشون على كوكب آخر.

المأساة التي تحدث في غزة ليست مجرد حدث إنساني، بل اختبار عالمي لضمير العالم، وقد فشل فيه كثيرون، ونجح فيه من كنا نظن أنهم آخر من سيتحدث عن مآسينا.

إنها لحظة سقوط الأقنعة، حيث يُصفَّق للجلاد في المؤتمرات، وتُمنح له الشرعية، بينما تُترك الضحية تحت الركام بلا صوت ولا سند.

من يرى المجازر في غزة ويصمت، شريك في الجريمة.
ومن يبرر القتل بذريعة الدفاع عن النفس، ساقط أخلاقيا.
ومن يتعاطف مع الضحية، حتى لو كان من خارج دينه وقوميته، فهذا هو الإنسان الحقيقي.

في عالم يعج بالضجيج والنفاق السياسي، يبدو أن الصمت لم يعد موقفا محايدا، بل صار انحيازا للجلاد.
السكوت عن دماء أطفالنا في رفح وخان يونس وجباليا ليس إلا إعلان إفلاس أخلاقي يشارك فيه كثير من النخب الصامتة، والأنظمة المتواطئة، والهيئات الدولية العاجزة.

متى أصبح الصراخ لأجل العدالة تهمة؟ متى صار الدفاع عن المظلوم مرادفا للتطرف؟ ومتى صار التعاطف مع من يُبادون أمام الكاميرات موضع شك ومساءلة؟

ما كشفه هذا الاستطلاع ليس مجرد أرقام، بل هو زلزال في الوعي الصهيوني المشتت أصلا، يقول بلغة فصيحة: إن جيلا جديدا من اليهود لم يعد يبتلع رواية “الضحية الإسرائيلية الأبدية”، بل بدأ يرى الجلاد الذي تلوثت يداه بدماء الأبرياء، حتى لو كان يحمل نفس هويته.

المشكلة أن بعض من يصفقون للعدالة من خارج أسوار الأمة، يفضحون صمت من هم في داخلها.
فهل نحن بحاجة إلى شباب يهود ليذكّرونا بإنسانيتنا؟ أم أن شدة القمع، وشهوة السلطة، وعقدة “التحالفات المقدسة” أخرستنا حتى بتنا نتحدث همسا عن غزة، بينما يتحدث أبناء “الشتات” جهارا عن إبادة الشعب الفلسطيني في غزة؟

لقد آن أوان كسر جدار الخوف، وسقوط الروايات المعلبة، وقول الحقيقة للعالم: لسنا حياديين بين من يذبح الجلاد، ومن يُذبح من أبنائنا.

نقف مع الإنسان أياً كان، لا مع ديانته، ولا مع حدود دولته، ومن لا يملك شجاعة الانحياز للحق، فليتنحَّ جانبا، لأن عجلة الوعي بدأت بالدوران ولا تنتظر المترددين.

غزة ليست وحدها، وغدا، حين ينقشع غبار الحروب، سيُكتب التاريخ بأيد لا تعرف الكذب، وسيُذكر أن الحق لم يُدافع عنه فقط من على منابر المساجد، بل من على أرصفة الجامعات، وفي احتجاجات الغرباء، ومن حناجر أبناء “الشتات” أنفسهم.

وسيذكر التاريخ أن من فضح الإبادة لم يكن فقط الفلسطينيون الذين ما زالوا تحت الركام، بل أيضا يهوديٌّ شابٌّ في جامعة أمريكية، انتصر لضميره على حساب روايات الآباء، وشقّ عصا الطاعة على إعلام الكذب ومنظومة التبرير الإسرائيلية.

ولأن صوت الضمير الحي حين يعلو لا يمكن إسكاته، فقد بات هذا الشاب وأمثاله نذير تحول تاريخي، يكشف أن روايات أكاذيب المحتل بدأت تتهاوى حتى في عقول أبنائه، وأن جدار الصمت لم يعد حصنا يحمي الباطل.

في تلك اللحظة الفاصلة في وعي البشرية، يتجاوز الإنسان أصفاد الهوية، ويقف مجردا من كل شيء، إلا من إنسانيته.

أما نحن، أهل الأرض المقدسة وورثة القضية، فإننا أمام امتحان لا يتعلق ببيانات الشجب والاستنكار، ولا ببلاغة الخطب الرنانة، بل بسؤال بسيط ومزلزل: هل ما زالت فلسطين تعني لنا شيئا؟

لا تحتاج غزة إلى دموعنا، بل إلى صرخة تُدوّي في وجه الصمت، ولا تحتاج رفح إلى حزن مصطنع، بل إلى غضب يليق بمجازر تُرتكب على الهواء مباشرة، في كل دقيقة.

الصمت في حضرة الدم خيانة، والتبرير تواطؤ، والتردد سقوط أخلاقي لا يُغتفر.

لا تحتاج القضية الفلسطينية إلى مزيد من المزايدات، بل إلى رجال ونساء يعرفون أن الكلمة حين تُقال في وجه الظالم، توازي طلقة في قلبه.

ففي زمن التزييف، تصبح الحقيقة مقاومة، وتصبح الكلمة الحرة سلاحا لا يقل عن البندقية في معركة الوعي والبقاء، لأن المعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على الرواية، وعلى من يملك الجرأة ليقول: هذا احتلال، وهذه إبادة، وهذا شعب يُذبح تحت سمع العالم وبصره.

هذا الاستطلاع ليس خبرا عابرا للقارات، بل شهادة دامغة على أن الرواية الصهيونية بدأت تنهار من الداخل، وأن جيلا يهوديا جديدا بدأ يُولد من رحم التضليل والألم، لا يجيد الانبطاح، بل يفتح عينيه على الحقيقة، ويقف في وجه الجلاد ولو كان يحمل اسمه، ويصرخ بالحق في وجه آلة البطش الإسرائيلية التي اعتادت التصفيق بدلا من المساءلة.

فهل نكون نحن – أبناء هذه الأرض – على قدر هذه اللحظة؟ أم سنتركها تمضي كما مضت ألف لحظة من قبل، والخذلان في صدورنا أعمق من كل جرح؟

إننا أمام مفترق طرق، لا يحتمل التردد ولا التهاون بوضع رؤوسنا في الرمال كالنعام.
فإما أن نختار الانحياز للحق دون مواربة، ونستعيد صوتنا وكرامتنا في وجه العالم،
وإما أن نظل شهود زور على موتنا، نُصفق للجلاد ونخذل الضحية.

ما يجري في غزة، لا يُغتفر، وما يجري في وعينا، لا يُطمأن له، لكننا، رغم ذلك، سنكتب.
سنكتب لأننا نرفض الصمت، ونؤمن أن الكلمة قد لا توقف مجزرة، لكنها توقظ أمة.

وما دام في الأمة من لا ينام ولا ينسى، فستبقى فلسطين عنوان الحق، وسيفا مسلطا على رقاب المتواطئين وإن طال صمتهم، وستظل جذوة النضال مشتعلة في قلوب الأحرار حتى تتحقق الحرية الكاملة، وتنتصر الحقيقة على كل قوى الظلم والطغيان.

كاتب رأي

 

 

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى