كُتاب الرأي

في رعاية الله ثم في رعايتنا

 

 

في رعاية الله ثم في رعايتنا

الحج ليس مجرد عبادة بدنية يؤديها المسلم مرة في العمر، بل هو مدرسة ربانية عظيمة تتجسد فيها معاني التوحيد الخالص، وتترسخ فيها أركان الإخلاص، وتُربى فيها النفس على الطاعة والتجرد واليقين، وهو فرصة لا تتكرر لتحرير القلب من الدنيا وربطه بالله الواحد القهار، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “الحجّ عبادة العمر، وأجلّ العبادات، يجتمع فيها التوحيد، والتوكل، والذكر، والإنابة، والصبر، والشكر، والحياء، والخضوع، والذل لله، وترك الترف، والتقشف، والهجرة إلى الله.”

إن أول خطوة للحاج هي إعلان التوحيد، فمنذ أن يُهلّ الحاج بالتلبية: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك” يعلن العبد خضوعه المطلق لله، وينفي الشرك عن قلبه ولسانه، كأنه يقول: “جئت إليك يا رب، أترك خلفي كل ما تعلقت به نفسي، فلا حب إلا لك، ولا رجاء إلا منك”، وقد روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال: “أفضل الحج: العجّ والثجّ”، والعجّهو رفع الصوت بالتلبية، والثجّ هو إراقة الدم، وكلاهما مظهران من مظاهر تعظيم الله وإخلاص التوجه إليه.

ومن قصص الحج التي تذيب الكبرياء، في مشهد يخلّد معنى التواضع، رُوي أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالكعبة في الحج، فاقترب منه رجل من أهل اليمن، وقال له: “يا أمير المؤمنين، إنك رجل عظيم!”، فقال عمر وهو يبكي:“ويحك! كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، فمتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”.

الحج يعيد الإنسان إلى حقيقته: عبدٌ فقير إلى ربه، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين ملكٍ وعامة، الكل واقف بين يدي الله، لباس الإحرام.. لباس الآخرة،حين يرتدي الحاج الإحرام الأبيض، يخلع الدنيا بكل زخارفها، كأنه يتهيأ للقاء ربه. يقول الشاعر:

خرجتُ من الدنيا بقلبٍ سليمْ

وأحرمتُ والدمعُ يَهمي غزيرْ

كأنّي على موعدٍ للرحيلْ

فلبّيتُ ربّي بصوتٍ كسيرْ

ويأتي الحجاج إلى مقام إبراهيم ويُصلّون خلفه ركعتين، في استحضار لصبر الخليل عليه السلام حين قال له الله: {أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، لقد امتثل إبراهيم لأمر الله في تقديم القربان، وفدي بذبح عظيم بعد أن صدق الرؤيا، طاعة لله، فأي توحيد أعظم من ذلك؟! في موسم الحج، تُروى قصص من أزمنة مختلفة، كلها تصب في مجرى واحد: الطاعة لله فوق كل شيء. تُذكّرنا امرأة حجازية فقيرة خرجت للحج على قدميها من مكة إلى عرفة، ولما سألها أحدهم: “كيف تصبرين على هذا؟”، قالت بثقة: “إذاكان طريق الجنة يتعب، فالراحة في الجنة تكفي”

ويُعلمنا رمي الجمرات كيف نُسقط وساوس الشيطان وأهواء النفس. تذكير بما فعله إبراهيم عندما اعترضه الشيطان، فرماه بثبات وإيمان، وهنا يقول الحاج: “أنا أرمي كل ضعف، وكل ذنب، وكل شهوة، وأجدد عهدي مع الله”، يقول الإمام الغزالي:“الحج ليس مجرد خطوات تُقطع، بل أسرار تُستوعب، ونيات تُطهّر، وقلوب تُجدد”.

عندما يعود الحاج إلى أهله، لا يعود فقط بثوب أبيض، بل بقلب أبيض، وعين باكية، ولسان ذاكر. يقول النبي :

“من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه” [متفق عليه]. أي رجوع أعظم من هذا؟!

قال الشاعر:

رجعتُ إليكم والتوحيد رايتي

وقلبُ من الذنْبِ مغسولٌ بأنْهاري

فإنْ سألتمْ عن الحاجِ ونيّتهِ

فقولوا: “عادَ للحبِّ من أسفاره”

الحج ليس نهاية، بل بداية. بداية عهد جديد مع الله، عهد توحيد خالص، وعبادة نقية، وخلقٍ زكيّ، وسلوك مستقيم. فهنيئًا لمن وقف بعرفة، ودعا بخشوع، ورمى بشجاعة، وطاف بمحبة، وسعى بصدق، فخرج من الحج بقلب موصول بالله، لا تلهيه تجارة ولا دنيا.

يا حجاج بيت الله الحرام.! أنتم في رعاية الله ثم في رعاية المملكة العربية السعودية، التي تبذل جهدا في خدمتكم، حيث تمثل المملكة العربية السعودية القلب النابض للعالم الإسلامي، وهي موطن الحرمين الشريفين، ومهوى أفئدة المسلمين من شتى بقاع الأرض. ومنذ تأسيسها، جعلت المملكة خدمة ضيوف الرحمن ورعاية المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة على رأس أولوياتها، إدراكًا منها لعِظم هذه المسؤولية الدينية والإنسانية. وقد تجلت هذه الجهود في مشاريع جبارة، وخطط استراتيجية، وخدمات نوعية تسعى جميعها لتوفير بيئة آمنة ومريحة للحجاج والمعتمرين، فأولت اهتمامًا بالغًا بتوسعة الحرمين الشريفين توسعات متتالية تعد من أكبر المشاريع المعمارية في التاريخ الإسلامي، لزيادةالطاقة الاستيعابية للمسعى، وإنشاء مساحات ضخمة للصلاة والمرافق الخدمية. كما طُوّرت شبكة النقل بين في المشاعر المقدسة، ومن أبرزها “قطار المشاعر” الذي يربط بين منى ومزدلفة وعرفات، و”قطار الحرمين” الذي يسهل التنقل بين مكة والمدينة.

وفي مشعر منى، أنشأت المملكة خيامًا مطورة مقاومة للحرائق، ومزودة بالتكييف لضمان راحة الحجاج، مع تجهيز ممرات ومرافق خدمية متكاملة تتيح أداء المناسك بسلاسة.

كما حرصت المملكة على تأمين خدمات صحية شاملة خلال موسم الحج، عبر مراكز صحية ومستشفيات متنقلة موزعة في مكة والمشاعر. وتعمل هذه المنشآت على مدار الساعة بإشراف كوادر طبية مؤهلة، لتقديم الرعاية اللازمة والتعامل مع أي حالات طارئة. كما يُوفَّر الدعم الإسعافي عبر فرق الهلال الأحمر السعودي المنتشرة ميدانيًا، مدعومة بتقنيات الاستجابة السريعة وخطط الطوارئ لمواجهة الأوبئة أو الحوادث.

وفي جانب توظيف التقنية في تنظيم الحج والعمرة، وانسجامًا مع رؤية المملكة 2030، تم إدخال التقنية بقوة في تنظيم شؤون الحج والعمرة، بدءًا من منصة “نسك” الرقمية التي تسهل إجراءات الحجز والتقديم، مرورًا باستخدام البطاقات الذكية للحجاج، ووصولًا إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي والكاميرات المتقدمة لإدارة الحشود وتنظيم المسارات. وقد ساهمت هذه التقنيات في تقليل الازدحام، ورفع مستوى السلامة، وتحسين تجربة الحاج بشكل ملحوظ.

وإيمانًا بمكانة ضيوف الرحمن، توفر المملكة مجموعة واسعة من الخدمات الإنسانية، من توزيع الوجبات والمياه المبردة، إلى توفير الترجمة الفورية والإرشاد الديني بعدة لغات. كما تخصص فرقًا مدربة لخدمة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، وتسهيل حركتهم داخل الحرمين والمشاعر.

وتقوم قوات الأمن السعودية بدور محوري في تأمين الحجيج، من خلال تنظيم الدخول والخروج، ومراقبة أماكن التجمع، والتعامل الفوري مع الحالات الطارئة. وتُستخدم أنظمة مراقبة ذكية لرصد حركة الحشود وتوجيهها بطريقة تضمن انسيابية وسلامة الجميع، إلى جانب برامج توعوية مكثفة لتثقيف الحجاج حول إجراءات السلامة.

وفي إطار التزام المملكة بحماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، أُطلقت مبادرات تهدف إلى تقليل النفايات خلال موسم الحج، وتحفيز إعادة التدوير، واستخدام وسائل نقل صديقة للبيئة. وتُعد هذه الخطوات جزءًا من رؤية السعودية لجعل الحج أكثر توافقًا مع التحديات البيئية العالمية.

وما تقوم به المملكة العربية السعودية في خدمة المقدسات وزوار البيت العتيق يعد أنموذجا عالميا فريدا، وما تبذله المملكة من جهود جبارة ومتواصلة في خدمة الحجيج ورعاية المقدسات الإسلامية، يجسد التزامها العميق بمكانتها الدينية كحاضنة للحرمين الشريفين. ومن خلال المزج بين قيم الضيافة الإسلامية، والتخطيط الحديث، والتقنية المتطورة، تواصل المملكة تقديم تجربة روحانية فريدة وآمنة لملايين المسلمين سنويًا، مما يجعلها نموذجًا عالميًا يُحتذى به في خدمة الأماكن المقدسة وضيوفها، يأتي موسم الحج كل عام حاملاً معه مشاعر الإيمان والخشوع، ويجتمع الملايين من المسلمين من شتى بقاع الأرض في أطهر بقاع الدنيا، يؤدون الركن الخامس من أركان الإسلام في أجواء روحانية مهيبة. ومع هذه الجموع الغفيرة، تبرز المملكة العربية السعودية بقيادتها الرشيدة كرمز للعطاء والإنسانية، وتجسد أروع صور الرعاية والتنظيم والخدمة لضيوف الرحمن، وتتجلّى عبارة “حجاجنا في أيدٍ أمينة” في كل تفاصيل رحلة الحاج، منذ لحظة وصوله إلى أرض المملكة وحتى مغادرته بعد أداء المناسك. فالدولة سخّرت إمكانياتها كافة لخدمة الحجاج، بدءًا من تطوير المشاعر المقدسة، وتهيئة وسائل النقل الحديثة، وتوفير الخدمات الصحية المتقدمة، إلى جانب فرق الدفاع المدني، والهلال الأحمر، والكوادر الأمنية التي تعمل على مدار الساعة لضمان سلامة الجميع.

ولم تقتصر الجهود على الجانب الخدمي فقط، بل شملت أيضًا الجانب الإنساني، إذ تولي القيادة اهتمامًا بالغًا بكبار السن، والمرضى، وذوي الاحتياجات الخاصة، عبر مبادرات نوعية وبرامج خاصة تسهّل عليهم أداء الشعائر بأمان وراحة، ولعل المشاريع العملاقة التي أُنجزت في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة خير شاهد على هذا الاهتمام الكبير، كقطار المشاعر، ومنشأة الجمرات، والتوسعات الهائلة في الحرم المكي، التي صُممت لتستوعب الملايين وتوفر لهم بيئة آمنة ومريحة، و ما تقدمه المملكة من جهود جبارة في موسم الحج ليس مجرد تنظيم، بل هو رسالة إيمانية وإنسانية تعكس عمق المسؤولية التي تحملها بلاد الحرمين تجاه الإسلام والمسلمين، وتؤكد للعالم أجمع أن خدمة ضيوف الرحمن شرف لا يضاهيه شرف.

ختامًا، نقولها بكل فخر: “السعوديون أهل لرعاية الحجاج والمعتمرين”، فهناك رجال ونساء سخروا وقتهم وجهدهم، بإخلاص وتفانٍ، ليؤكدوا أن السعودية كانت ولا تزال حاضنة الإسلام، وراعية الحرمين، وقلب الأمة النابض بالإيمان والرحمة.

  د. عبدالرحمن الوعلان ( معد برامج تلفزيونية وكاتب)

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى