كُتاب الرأي

جرف هار

سلطان عيد المرشدي 

جرف هار

ليالٍ توسد سماؤها بدر التمام يتقاطر على أكُفنا هتان برد الشتاء، تشير الساعة إلى العاشرة والنصف ويُشير صوت طرق الباب باستحياء إلى زائر ينتظرنا خلفه، تفاجأت كثيرًا من يا تُرى قد يكون؟ لأنه من المستغرب جدًا أن يزورنا أحدهم في هذا الوقت من الليل ودون أي موعد، فقد أغنى الهاتف النقال عن المجيء وكفى الناس البحث عن الآخرين ومشقة الذهاب للمنازل للسؤال والاطمئنان دون العلم بوجود أهل ذلك الدار بداخله، أستجمعت قوايّ بعد أن كنت مسترخيًا لأنفض عن أكتافي جهد نهار يومٌ شاق فخرجت مسرعًا فإذا به صديق قريب جدًا بالنسبة إليّ، على ملامحه إيماءات حديث أثقل عليه من طريق المجيء إلى منزلي.
أخذني بالحديث أمام الباب والسؤال عن الأحوال وكلماته تتلوى على لسانه ما إن رأيته قرأتها في عيناه دون سعي، فطلبت منه الدخول ولكنه رفض ذلك ثم أصريت عليه حتى وافق على أن يدخل وتبادلنا الحديث كعادتنا ثم صمت فجأة وكأنه سرح وأصبح في تلك الثواني قابعًا في منتصف أفكاره، فشعرت حينها أن هنالك شيئًا ما غير مطمئن فهو على غير عادته تمامًا، قطعت خياله بسؤال سريع عن عمله وترقيته حدثني عنها على عجاله وكأن سؤالي ليس بالأمر المهم الذي سيتوقف عليه، وأتم كلامه مفاجئًا إياي وقال: أخي سلطان أنا أتيتك في هذا الوقت المتأخر وأريد منك أمرًا تقف فيه معي، قلت له: ابشر، قال: أريد منك أن تكفلني كفالة مالية، فأجبت عليه متسائلاً: لا يهمك، ما قدر المبلغ الذي تحتاج إلي لاكفلك فيه؟ فإذا بالرقم الذي طرحه بين يدي مبلغ يفوق قدرتي على سداده لو تعثر يوما بسببٍ ما، ألتقطت أنفاسي وتشجعت وأنا أستذكر ما حدث لي في كفالات مادية سابقة تخلى عني فيها أصحابها وكأنها لا تخصهم بتاتًا، وانتهت بدفعي لجزء كبير منها لم تسترد إلى الآن، أعتذرت منه بلطف وانتهى الحديث بيني وبينه أحسست بأن رفضي لم يكن الجواب المطلوب أو حتى المتوقع ولذلك أحزنه وضيق عليه فكره وحار بفعله، استأذن وانصرف.
بعد ثلاثة أيام أتصلت عليه لأطلب منه تحديد موعدًا للقائه وزيارته في منزله، وحددنا موعد لقاءنا، فلما حان موعدي معه حملت معي مبلغًا من المال لأساعد به صديقًا جمعتني به الحياة وأشعر بأن من واجبي أن أقف بجانبه حسب استطاعتي ودون أن أضر نفسي أو أتخلى عنه، وكان المبلغ هديةً مني غير مسترجعة لكنه رفض قبوله، وهُنا أدركت باتخاذه لموقف نحوي، لقد عرفت ذلك من استقباله لي وترحيبه وتجاهلت ذلك لكن أدركت أنه بالفعل هذا ما في نفسه، وكمحاولة أخيرة في إرضاؤه ولأجل بقاء صداقتنا، عرضت عليه الكفالة وأني مستعد لذلك وأنا أعلم يقينًا بأنني قد أقع في الفخ يومًا ما ولسان حالي يقول “مجبرًا أخاك لا بطل” رد علي ببرود: لا شكرًا لك فقد غيرت فكرة الاقتراض ولم أعد بحاجة للمال، ودعته وخرجت ولم أعلم أن لقائي به هذا اليوم هو آخر لقاء يجمعنا.
حاولت لاحقًا التواصل معه مرارًا لأعيد المياه إلى مجاريها كما يُقال، ومحاولة زيارته فهو صديق منذ القدم وأكن له الكثير من التقدير والاحترام، ولكنه امتنع عن الوصل والآن تمر السنوات ولا تحمل في كفتيها أي خبر عنه وعلى أي حال هو، فقد أنهى علاقتنا تمامًا واجتثها من جذورها بسبب ذلك الموقف، فهل أصبحت علاقاتنا على جرف هار؟ تنتهي لأي سبب كان ولا يمكن أن نلتمس العذر للآخرين؟ بعدما أعتذرت له بلطف ووضحت له السبب وبالرغم أن إجابتي لطلبه هو عين الصواب والذي يوافقني عليه الكثير من الناس، والقصص المشابهة لقصتي كثيرة ومنها ما يُفقدك أصدقاؤك لأمور كان من الأولى تجاوزها بكل سهولة والحفاظ على علاقاتنا.
فهل اصبحت صداقتي مع رفيق عمري هذا كما ظننت ذلك تُبنى على الهاويات وفي أول عاصفة يكون القفز بها أول الحلول، أم ان بنائي من الأساس لا ركاز له فلم يكتمل والأشياء الغير مكتملة لا تستمر وبعد أن عشت أيامًا معه ظننتها في رغد الربيع اتت مواقف الخذلان وادركت فيها أن ما مضى كان أعوامٌ من الخريف مرت وتساقطت فيها كل الأوراق المليئة بالضحكات والمواقف التي لا تقدر بثمن وتبخرت لتطوى الصفحات دون سببٍ يذكر أو خطأ يُعاد، فموقفي هذا وقصتي ماهي إلا بضعٌ من كُل وفيضٌ من غيض القصص الكثيرة التي تكون العلاقة فيها على جرف هار، أدركت منها أنه على مقربة منا جميعًا في علاقاتنا، والهاويات لا تأبى من سقوط أحد، لكن الحصن بعد رزق الله هو الاختيار الصحيح، لذلك يجب أن نميز الأصدقاء المخلصين الذين يدركون أن الصداقات هي التي تبدأ بالصبر والتغافل عن الزلات كيّ تستمر وتنجح .

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى