مظاهر التحضر الزائف

الدكتورة سارة الأزوري
مظاهر التحضر الزائف
في زمنٍ طغى فيه الظاهر على الجوهر، سادت ثقافة تُضخّم الهامش وتُلبسه ثوب الأهمية.
فلم تعد القهوة مجرّد مشروب يومي، بل غدت طقسًا استعراضيًّا للتمايز؛ لا يخلو حيٌّ من مقهى، ولا حساب من كوبٍ مُصوَّر، تُسكب فيه القهوة بأسماء منمّقة لجلب “الروقان”، وكأن التسمية تصنع النكهة، أو تسكب في الروح صفاءً.
ولأن الصورة صارت غاية بحد ذاتها، تحوّل شرب القهوة – لا سيما عند النساء – إلى رمز ناعم للتعبير عن الذات، حتى بدا وكأن من لا تحب القهوة، ولا تهيم بالورد، ولا تستمع لفيروز، لا تملك رقةً ولا ذوقًا، وعليها – على سبيل الدعابة – أن تلتحق بالجيش فورًا!
الإعلام لعب دوره في ترسيخ هذا القالب النمطي، حيث تُقدَّم القهوة بوصفها امتدادًا للأنوثة، وتُربط بالدفاتر والأوراق والعطر والنعومة، حتى غدت كثير من المقاهي مشاريع نسائية لا تبيع القهوة فحسب، بل تبيع أيضًا انطباعًا أنيقًا عن الحياة.
ثم امتد هذا التعلّق بالمظاهر إلى موجة أكثر نعومة في ظاهرها، وأشد خدشًا في جوهرها: تربية الحيوانات الأليفة، لا بدافع فطري أو تعاطف إنساني، بل بوصفها رموزًا للرقة والتحضّر و”الوعي الشخصي”.
لكن هذا الإقبال المتزايد لا يعكس دائمًا رحمة، بل كثيرًا ما يكشف عن تعويض عاطفي لعلاقات بشرية آخذة في التراجع؛ استبدال للوصال الإنساني بألفة صامتة لا تُطالب ولا تُعاتب، ومحاولة لتسكين الوحدة أكثر من كونها بناءً للروح الاجتماعية.
وما يزيد المفارقة قسوة، أن تلك الكائنات تُحبس وتُعقّم وتُمنع من فطرتها، لا لحاجة طبية، بل حمايةً للأثاث وتجنّبًا لما يُسمى “الإزعاج”، في قسوة مغلّفة بالذوق تُسمّى “عناية”، وهي في حقيقتها مصادرة للحياة تحت شعار “الرفق”؛ رفق لا ينبع من عاطفة صادقة، بل من حاجة نفسية مكسورة تبحث عن بدائل صامتة لعلاقات باتت أثقل من أن تُحتمل.
وهكذا، لا كوب القهوة يصنع السكينة، ولا القطة أو الكلب يصنعان الرقي، إن لم يكن ذلك نابعًا من الداخل.
فالتحضّر لا يُقاس بمظاهر أنيقة أو مشاهد مصوّرة، بل يُبنى في أعماق النفس: في صدقٍ مع الذات، ويدٍ حانية لا تنتظر تصفيقًا، وقلبٍ يعطي لأنه يحب، لا لأنه يُشاهَد.
التحضّر لا يُلتقط بعدسة… بل يُمارس.
والسكينة لا تُشترى… بل تُبنى.
أديبة وشاعرة وكاتبة رأي