كُتاب الرأي

ضمير الكلمة .. الشائعة جريمة صامتة

د. عبدالاله محمد جدع

ضمير الكلمة .. الشائعة جريمة صامتة

 

في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار وتتدفق المعلومات بلا ضوابط، تبقى الكلمة أمانة، والصدق ميثاقًا لا يلتزم به إلا الأوفياء.

 إنّ نقل الأخبار دون التحقق من مصداقيتها ومصدرها خيانةٌ لهذه الأمانة، ومساهمةٌ مباشرة في نشر الشائعات التي قد تضر الأفراد والمجتمعات.

الشائعة لا تستخدم سلاحًا… لكنها  تصيب فتقتل بلا صوت..

فحين يتحوّل الإنسان إلى ناقل للعدوى، لا يكون فعله بريئًا كما يظن؛ ففعل نقل المعلومة قرارٌ أخلاقي يحمل في طياته مسؤولية اجتماعية.

في العالم الرقمي المفتوح، يتساوى فيه صوت العارف والجاهل، ويصير كل شخص قناة محتملة لبث معلومة، صحيحة كانت أو زائفة. وبين “إرسال” و”إعادة توجيه”، تُبث أحيانًا أكاذيب تترك أثرًا نفسيًا أو اجتماعيًا يصعب مَحْوه.

التحيّز التأكيدي:

حين نُصدق ما نُحب

في علم النفس الاجتماعي، يُعرَف سلوك تصديق الإنسان لما يتوافق مع أفكاره السابقة بـ التحيّز التأكيدي (Confirmation Bias)، وهو انحياز معرفي يجعل الشخص ينتقي من المعلومات ما يؤكد معتقداته، ويتجاهل ما يخالفها، حتى لو كان أكثر دقة.

لذا، فإن بعض الناس يصدقون الشائعات ليس لأنها منطقية، بل لأنها تريحهم نفسيًا أو تؤيد تصوراتهم المسبقة.

عدوى العاطفة:

الشائعة كفيروس

في السياق ذاته، تُصنَّف بعض أنواع الشائعات ضمن ما يُعرف بـ العدوى العاطفية الجماعية (Emotional Contagion)، حيث تنتقل الانفعالات من شخص لآخر كما تنتقل الفيروسات.فيندفع الناس أحيانًا لتصديق أخبار كاذبة لأنها تلامس خوفًا أو أملًا بداخلهم، لا لأنها صادقة.

الشائعة ليست مجرد “كلام”

فمن الزاوية الاجتماعية، تظهر نظرية النافذة المكسورة (Broken Windows Theory) التي وضعها جيمس ك. ويلسون وجورج كيلنغ.

تُفيد النظرية بأن تجاهل الأخطاء الصغيرة – كإشاعة تُترك دون تصحيح – يُمهّد الطريق لانتشار الفوضى والانحدار المجتمعي.

فالصمت عن الكذب لا يُعبّر عن حِلم أو تسامح، بل يمنحه شرعية زائفة، ويُفسَّر ضعفًا أو قبولًا به.

من المسؤول ؟ المرسل أم المتلقي؟

في الإعلام الحديث، لم يعد المتلقي معفيًا من المسؤولية.

يُعرف هذا بمفهوم “مسؤولية المتلقي (Audience Responsibility)”، حيث يُتوقع من كل شخص أن يُمارس الحد الأدنى من التفكير النقدي.

لم نعد في عصر المتلقي الصامت، بل في زمن يستطيع فيه كل فرد أن يسأل:

“من قال؟ لماذا؟ وما المصدر؟”

التبرير الأخلاقي: “أنا فقط نقلت!”

وفي السياق النفسي نفسه، يطرح ألبرت باندورا مفهوم “التبرير الأخلاقي (Moral Justification)”، أي أن يبرر الفرد فعله الخاطئ بادعاء البراءة من المسؤولية. فيقول البعض: “أنا فقط نقلت!”

وكأن إعادة نشر الأكاذيب لا تسهم في خرابٍ فكري أو تشويه صورة.

وهم الكذبة: حين يصدّق الكاذب كذبته

الأخطر من ذلك أن بعض الناس يكررون الكذب حتى يصدقوه، ثم يدافعون عنه بثقة كاملة.

هذا التورط النفسي يُعرف بـ التمركز حول الذات المعرفية (Cognitive Egocentrism)، وهو شكل من أشكال الإنكار الذاتي الذي يجعل صاحبه يرفض الاعتراف بالخطأ، حتى أمام الأدلة.

“أعداء الحقيقة لا يصرخون، بل يهمسون… ويتركون غيرهم يتكفّل بالصدى.”

الشائعة تبدأ همسًا… وتنتهي صراخًا..  قد تبدأ بكلمة بسيطة، تُقال بلا وعي، وتُعاد بلا تحقق، لكنها قد تنتهي بضررٍ نفسي أو اجتماعي كبير، أحيانًا على أبرياء لا ذنب لهم.

مسؤولية الكلمة لا تقل عن مسؤولية الجراحة

في عالم تسوده الفوضى المعلوماتية، لا تكن رقمًا في سطر… كن من يرفع يده ويقول: “توقّف، ما دليلك؟”

ختامًا .. في عالمٍ تغرق فيه الحقيقة وسط الضجيج، لا تكن ناقلًا للعدوى، بل حاجزًا ضدها.

فالشائعة لا تبدأ بكذبة كبيرة، بل بكلمة تُقال دون وعي، وتنتشر لأننا لم نمتلك الشجاعة لنسأل .

كاتب رأي

الدكتور / عبدالإله محمد جدع

أديب وشاعر وكاتب رأي سعودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى