كُتاب الرأي

إذا سبّح القيطون فقد همّ بسرقةٍ

سلطان عيد المرشدي

إذا سبّح القيطون فقد همّ بسرقةٍ

كانت ملاكًا تمشي هوينًا على الأرض، كأنها حديقة غنّاء أزهرت بأجمل الورود، بل إنها كالمطر الذي هطل على الأرض فأطرب لصوته الحيوان والنبات قبل الإنسان، نورٌ انسدل في منزلنا عندما قدمت، جمعت كل الصفات الرائعة: الصدق، والأمانة، والتدين، والخُلق الحسن.

هذا الوصف ليس (لانيا تايلور) بناءً على مقياس المعيار اليوناني الذهبي للجمال، بل لإحدى العاملات التي كانت تعمل لديّ.

اضطررت يومًا لإحضار عاملة منزلية من إحدى الجنسيات للعمل، وما إن مضت الأيام وانطوت الليالي إلا وأجد فيها الكثير من الصفات الرائعة، التي أشعرتنا بالارتياح والاطمئنان. كيف لا؟ فدخول شخص غريب، مختلف الطباع والعادات والتقاليد، عاش في بيئة مغايرة وفي فقرٍ مُدْقِع، ليس بالأمر الهيّن.

استمرت علاقتنا بها كجزء من أفراد عائلتنا، وثقنا بها لدرجة كبيرة، أحسنّا التعامل معها، وهذا ديدننا مع كل من يدخل منزلنا للعمل فيه. فكل احتياجاتها من لباس، ومستحضرات، وأدوية، يتم توفيرها لها دون مقابل، محتسبين بذلك الأجر، وعاملين بوصية النبي ﷺ في حسن التعامل مع الخدم خاصةً والعمال عامة.

لم نلحظ عليها أي شيء طوال بقائها. مضى عامٌ كامل، وانتهت مدة عملها لدينا. اصطحبتها إلى مقر الشركة المسؤولة عنها، وأثناء الطريق، أسمع صوت تراطُم قوارير زجاجية بداخل السيارة! لم أُعر له اهتمامًا رغم لفتِه للانتباه.

وصلنا وجهتنا، وحملت العاملة أمتعتها وغادرت بعدما ودعتها. وما إن عدت إلى المنزل، وانفلق الصباح معلنًا يومًا من أعمارنا، يهطل علينا كالهَتان برحمةٍ من الله ورضوان، حتى بدأنا نشعر بفقد بعض أواني المطبخ الزجاجية والكثير من الأشياء الأخرى.

مباشرة، استذكرت تلك الأصوات التي سمعتها في الطريق أثناء إيصالها، وتذكرت أيضًا أننا في الليلة التي سبقت رحيلها ذهبنا لتلبية دعوة من قريب لتناول العشاء في منزله. حاولنا أن تذهب العاملة معنا، فاعتذرت وادّعت المرض، ولم نكن نعلم أنها تخطّط للسرقة.

تأكد لدينا أنها فعلاً هي من اعتدى على تلك الأواني الزجاجية الثمينة ومقتنيات أخرى. فعادت بي ذاكرتي لترديد أبيات شعرية مضرب للمثل، لمن يدّعي النُبل والخُلق، لأجل أن يُشعر الآخرين بالاطمئنان، ثم ينقضّ على فريسته بعدما يباغتها دون سابق إنذار، جاعلًا ضحيته يتخبّط في محيطه، تُسمع اصطكاك أسنانه من ألم الغدر، والخيانة، والخُبث.

فكل البدايات لا تشبه مصافحة أحداث الختام.

إذا سبّح القيطون فقد همّ بسرقةٍ

فلا تأمنِ القيطونَ حين يسبّحُ

بيت شعر قيل في السارق الماكر المُخادع. فكم من قيطونٍ يعيش بيننا، لبس لباس الورع والصلاح والخُلق الحسن والأمانة؟

فبدلًا من أن نحذر من السارق الذي قلّ وَرعُه، وبان عَوَره، وقذر لسانه، وجب علينا أن نراقب القياطين التي تُسبّح باللسان في النهار، وتُخطط للسرقة في جَنان الليل.

ولم تنتهِ قصتي مع القيطونة التي أيقظتني من سُباتي العميق، وثقتي العمياء، حتى وجدتُ قصيدةً لزميلي الدكتور دخيل الله الحارثي، تجاري البيت الشعري السابق، والتي تطرق فيها لهؤلاء القياطين بأبياته النيّرة. ومن جمالها لم أفكر حتى مجرد تفكير في عدم إدراجها في مقالي، بل مهّدت لها كل الطرق، لتكون زهرة الدِّيدَحان التي يفوح عبقها في صحراء صفحتي، لتكون الأجمل والأميز:

تزهّدَ في الفرائسِ وهو لُدّ

كأنَّ إحساسَهُ قدْ بَلَدْ

يُخبّئُ بالجهدِ سوءَ الطّباع

ويكسوَ وجهَهُ ثوبَ زُهْدْ

يظاهرُ بالودِّ وهو مخادع

ويَغدرُ كلّما أُعطيَ عَهدْ

تراهُ تقيّــاً وخــلاًّ وفيّــاً

وفي الخلَوَاتِ ذِئبٌ أَشَدّ

فلا تغترَّ إن سَكنَتْ خُطاهُ

فما في الصّدرِ إلا كَمَدْ

يجاهرُ بالصدقِ في كلِّ نادٍ

وفي القلبِ مكرٌ وطبعٌ فسَدْ

فكمْ مِنْ مُدّعٍ  للتقى والوَرَعْ

إذا لاحَ خُبزٌ غدا مُجتهِدْ

فما يُخفي قناعُ الزهدِ ماكر

فتلك بضاعةُ سوقٍ كسَدْ

فتبّاً وبُعداً لكـلِّ مخـادع

وفي جيدِ قيطونَ حبلٌ مَسَدْ

كاتب رأي

 

 

‫9 تعليقات

  1. ما شاء الله هكذا يكون الإبداع
    عندما تتحد أفكار العباقرة والإحساس الصادق لمبدعي الحروف والمعاني …..
    يولد هذا الجمال الذي ياخذنا لأبعاد قصصٍ مرت بنا أو بمن حولنا فنحمد الله أنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم محسنو الظن و المعاملة والعشرة الطيبة .
    سيرا على خطا قدوتنا عليه افضل الصلاة والسلام .
    والحمد لله أن الخسارة في الأمتعة لا في الأرواح .

    1. استاذة شقراء شكراً لقلمكم الذي عبر عن مشاعر صادقة عرفناها في كل المحافل الادبية سعيد جدا بمروركم والسماح لقلمكم بالتعقيب على مقالنا وثناؤكم على قصيدة شاعرنا الكبير الدكتور دخيل الله .

  2. أيها الأديب النبيل،،،
    حين يضيء قلمك درب الحرف، تتوارى ظلال المجاملة ويظهر النقاء الحقيقي الذي لا يُزيف.
    قراءتك لقصيدتي كانت روحًا تمشي على سطور، ونبضًا يحتفي بالشعر كما يُحتفى بالضياء بعد طول غياب.
    وما أعظم الكلمة إذا خرجت من قلبٍ يرى في القصيدة ما وراء الألفاظ، ويضعها في سياقها الإنساني النبيل، كما فعلتَ حين جعلتها زهرة الدِّيدَحان في صحراء مقالك، تمنح الجمال لحروفك، وتمنحني أنا لحظة فخرٍ لا تُنسى.
    أشكر لك هذا الإطراء الذي أراه تاجًا على القصيدة، لا وسامًا لي وحدي، بل لِرفقة الأدب، ولِحوار الفكر، ولجمال الوفاء بين الأقلام النقية.
    دمت للبيان بهجة، وللكلمة ضياء.

    أخوك
    دخيل الله الحارثي

    1. سعدت بكم الدكتور دخيل الله الحارثي ، قلمي خجل منكم فقد لايوفيكم حقكم ، وانا اعلم أنه إذا بدأ لن يتوقف عن التعبير عن مشاعر كاتبه ، ولكن ساقيده وابعث اليكم بكلمات نابعة من القلب لكم جزيل الشكر والامتنان على هذه الكلمات التي اعطت اخيك الكثير وقد اسهبت في مدحه وهو والله ماهو إلا تلميذ في مدرسة الادباء والتي اراك ويراك الجميع أنك من اركانها ، شكرا ثم شكرا ثم شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى