كُتاب الرأي

من فوندو إلى الأسد

محمد الفريدي

من فوندو إلى الأسد

يعرف الأشقاء التونسيون شخصية “فوندو”، وهي إحدى أيقونات الأساطير الشعبية التونسية، وتحكي عن بطل خرج لغزو قبيلة معادية، فعاد إلى قبيلته جثةً هامدةً على ظهر جواده، في مشهدٍ تختلط فيه الدلاخة بالخذلان، والعنجهية بالهزيمة.

يشبه هذا المشهد ما آل إليه الدلخ بشار الأسد، الذي كان يرفع شعار “المقاومة والممانعة”، قبل أن ينخرط في تحالفات دولية أعادت إنتاج الاستبداد بأبشع صوره، ووجد نفسه في النهاية محمولا على ظهر جواد روسي طائر، بعد أن فقد شرعيته الشعبية والسياسية، وحكم على نفسه بالموت في المنفى.

ومن خلفه، كان يقف المجرم القاتل حسن نصر الله، الذي طالما قدّم نفسه حاملا راية “تحرير فلسطين”، وهو كذّاب أشر، وأقرب إلى تنفيذ أجندات تتقاطع مع مشاريع طائفية وإقليمية، بعيدة كل البعد عن هموم الشعوب العربية وتطلعاتها.

لطالما تغنّى الطرفان بأنهما رأس الحربة في مواجهة “المخططات الغربية والإسرائيلية”، غير أن الواقع يكشف حجم التناقض بين شعاراتهما وممارساتهما على أرض الواقع.
ففي الوقت الذي يُرفع فيه شعار المقاومة، تغرق سوريا ولبنان في الفوضى، وتُدار بعقلية التبعية لا السيادة الوطنية، التي هي أساس الدولة اللبنانية والسورية.

كيف لمن يدّعي الدفاع عن فلسطين أن يُحوّل بلاده إلى ساحة حرب بالوكالة؟ وكيف يمكن لعقلية طائفية أن تتحدّث باسم العروبة، وهي ترهن قرارها لقوى أجنبية؟

هل كان التدخل الروسي والإيراني والأمريكي في سوريا نصرا للعروبة؟ وهل أصبح تمويل الميليشيات الطائفية في لبنان وسوريا طريقا لتحرير القدس؟
المؤسف حقا هو تصنيف التدخلات على الهوى الطائفي؛ فتُبارك تحالفات معيّنة، ويُخوّن كل من يخرج عن هذا الخط لأي سبب.

ومثلما تحوّل نظام الأسد إلى رمز للقمع في سوريا، غرق حزب الله في تحالفات جعلت لبنان أسيرا لصراعات داخلية وخارجية، متجاهلا واقع التنوع الذي يتطلّب التعايش لا الاستقواء على بقية الأطراف.
وتحت شعار “المقاومة”، سُحقت الأصوات الحرة، وتحوّلت الدولة إلى أداة في مشروع إقليمي يتجاوز مصالح اللبنانيين.

أي مقاومة تلك التي تقود بلدا زراعيا إلى الفقر والعزلة والجهل والجوع؟ وأي ممانعة تلك التي لا تُوجّه سلاحها إلا إلى الداخل العربي، بينما العدو الحقيقي يبقى خارج حساباتها؟

ما حدث لم يكن مفاجئا، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من المزايدات السياسية.
فـ”محور المقاومة” لم يخدم منذ تأسيسه إلا استمرارية أنظمة دكتاتورية فقدت شرعيتها، وأحزابا طائفية وظّفت قضية عادلة لتبرير ممارساتها القمعية.

التاريخ لن يرحم هؤلاء ولا أولئك، ولن تغفر الشعوب لمن حوّل شعار التحرير إلى غطاء للاستبداد.
بأي وجه يتحدثون عن السيادة وقد فتحوا أبواب أوطانهم لكل التدخلات، ولكل من هبّ ودبّ؟ وبأي منطقٍ يزايدون على قضايا الأمة وهم أول من كان ينهش في جسدها؟

لقد سقطت الأقنعة، واتّضح أن “الممانعة” ما هي إلا ستارٌ أيديولوجي يُخفي خلفه مشروعا سلطويا لا علاقة له بالحرية ولا بالتحرير.
ولم تعد الشعوب تُصدّق أن من يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة يمكن أن يكون حاميًا للمقاومة، أو أن من يُرعب شعبه ويُرهن قراره بيد الخارج يمكن أن يكون رأس الحربة في مواجهة الاحتلال.

اليوم، تتكشّف معادلتهم المزيفة: من ليس معنا فهو خائن، ومن يعارضنا فهو عميل.
والشعوب لم تعد قاصرة، والتاريخ لا يُكتب بالدعاية، بل بالحقائق.
وسيبقى السؤال قائما: لماذا أصبحت سوريا ولبنان مسرحا للدمار، بينما الأراضي المحتلة بعيدة عن كل “المقاومة” المزعومة؟

إن المشروع الذي قدّمه الأسد ونصر الله تحت لافتة “الممانعة” لم يكن إلا وسيلة لإطالة عمر أنظمة فقدت الثقة، ووسيلة جعلت لبنان وسوريا ساحات نفوذ للقوى الإقليمية والدولية المتصارعة.

كانا يظنّان أن الزمن في صالحهما، وأن القبضة الحديدية كافية لإسكات الشعوب، لكن الواقع أثبت أن الشعوب لا تُقهر إلى الأبد.
وما من طاغية ظنّ أنه خالد، إلا وسقط، وما من استبدادٍ لبس عباءة التحرير الكاذبة، إلا وكُشف أمام وعي الشعوب.

في سوريا، لم يتبق من الممانعة إلا ركام المدن، وصور الأسد على جدران محترقة، وتماثيله وتماثيل أبيه تدوسها الأقدام.
وفي لبنان، لم يبق من خطابات المقاومة سوى حزب متهم بالعمالة، وإغراق لبنان في الفوضى، وتهريب الكبتاجون، والعزلة.

لقد استُهلكت الشعارات، وانكشف زيفها، وبقيت الحقيقة واحدة: لم تُحرَّر أرض، ولم تُحمَ كرامة، بل تم تسليم القرار الوطني لأجندات لا ترى في شعوب المنطقة إلا وقودا لحروبها.

وإذا كان للتاريخ ذاكرة، فلن ينسى من خان الحقيقة باسم الشعارات الثورية، ومن وأد حلم التحرير تحت ركام الاستبداد والطائفية.

هذه هي حكاية “فوندو سوريا”، ولكن بلا بطولة ولا شرف.
فمن خرج باسم “الممانعة والمقاومة” عاد محمولا على ظهر الهزيمة، ليكون عبرة لكل من يتوهّم أن الاستبداد طريق إلى الخلود والمجد، وأن من يبيع وطنه تحت رايات شعارات طائفية كاذبة لن يعود إلا محمولا على صهوة الخزي والعار، يسابقه التاريخ في فضحه وتلفظه الذاكرة.

كاتب رأي

 

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. رائع 👍!
    هذا المقال ( ضربة معلم👌 )
    على قولة اخوانا المصريين بكل معنى الكلمة. السخرية اللاذعة مع التشبيهات الذكية جعلتني أقرأ المقال مرتين من كتر المتعة .
    تشبيه “فوندو” العبقري يلخص حال الطغاة بأقل كلمات وبأقوى تأثير . كل جملة كأنها سهم ، وكل فكرة مدروسة ومحكمة ومشحونة بالغضب النبيل. واضح أنك يااستاذ محمد فاهم الواقع ، وكأنك قد عاصرت معهم الأحداث في قعر دارهم ..
    كما أن جرأتك وأسلوبك تجعل القارئ يصحى ويغلي في نفس الوقت.
    فعلاً : قلمك قلم حر ، ولسان لا يجامل ، وضمير صاحي .. .
    لافض فوك👍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى