كُتاب الرأي

لا سلام مع أساطير تفوق الأبيض

محمد الفريدي

لا سلام مع أساطير تفوق الأبيض

من رحم المجازر، ومن بين ركام الشعوب المنهوبة، وُلدت أساطير التفوق، متوشحة بشعارات الحرية والديمقراطية.

غير أن التاريخ، حين يُقرأ بإنصاف، يكشف أن حضارات القتل لا تصنع سلاما، وأن وهم السيادة لا يورث إلا مزيدا من الدمار والخراب.

وسط صرخات الضحايا المدفونين تحت أنقاض غزة، يعود السؤال المؤلم: من أين وُلد الإرهاب؟

أهو ثمرة شرقية كما يصوره الغرب، أم جنين نشأ في أحضانه منذ قرون؟

لست هنا بصدد تبرير الأخطاء أو تعليقها على شماعات الآخرين، بل أبحث عن الحقيقة التي يكشفها التاريخ حين يُقرأ بصدق.

أبدأ من فلسطين الجريحة، حيث يمارس الكيان الصهيوني يوميا أبشع صنوف المجازر والقتل والتهجير، تحت لافتة “الدفاع عن النفس” وأساطير “أرض الميعاد”، وتتواطأ قوى دولية بصمتها أو دعمها، لتمنح هذا الإجرام غطاءً من الشرعية.

لكن الحقيقة التي لا تقبل التزييف أن هذا الكيان الغاصب هو امتداد لمشروع استعماري غربي قديم؛ نسخة محسنة من عنف الإمبراطوريات الأوروبية التي دارت حول العالم تحمل الموت باسم الحضارة، وتنهب الثروات تحت رايات نشر التقدم والمدنية.

ما يحدث في غزة اليوم هو امتداد دموي لذاك التاريخ الأسود، من مجازر الكُفرة في ليبيا (1931)، إلى تازركة بتونس (1952)، والثامن من مايو بالجزائر (1945)، حيث أباد “الرجل الأبيض” قرى بأكملها تجسيدا لعقيدته القائمة على التفوق والسيطرة، لا انحرافًا عن حضارته.

فمنذ نشأة الحضارة الغربية، وهي مشبعة بعقيدة التفوق؛ من الإرث اليوناني، مرورا بالفكر التنويري، وصولا إلى هابرماس، ظل “العقل” الغربي ينصّب نفسه معيارا أوحد للحق والعدالة والإنسانية، وينظر إلى كل من يخالفه بأنه بدائي، متخلف، أو خطر يجب محوه وإزالته.

هذه الأُحادية الفكرية أنتجت في الغرب خطابا يبرر العنف، لا كضرورة، بل كرسالة سامية، وقد تجلّى ذلك في الحروب الاستعمارية، حيث رُوّج للغزو والاحتلال على أنهما مهمة إنسانية نبيلة تهدف لانتشال الشعوب من جهلها وتخلفها.

وهذا عين ما عبّر عنه الصحفي والكاتب الأميركي كيمان ألوت حين قال: “إنّ وظيفةالجنس الأنجلوساكسوني منح الحضارة لشعوب العالم غير المتحضرة، إننا ننكر على أيشعب بربري أن يبقى في حوزته أي جزء من الأرض”.

ويكتب روجيه جارودي ناقلا عن جول فري Jules Ferry: “إن تأسيس مستعمرة يعنيإنشاء سوق ”.

ويضيف فري أمام البرلمان الفرنسي: “يجب القول بصراحة إن للأعراق العليا حقا عملياعلى الأعراق السفلى”.

وفي اعتراف صريح، قال الرئيس البوليفي إيفو موراليس – أحد أبناء الهنود الحمر – أمام الإعلام:

“نهب الأميركيون ثرواتنا، قتلوا منا من شاؤوا، وتركوا الأحياء يأكلون من المزابل”.

لم يكن هذا صدى لمبالغات ثورية، بل شهادة حية لما ارتكبته الحضارة الغربية في حق الشعوب الأخرى.

في أفريقيا سُرقت الأنهار والأرواح، وفي آسيا اجتُثت المدن من جذورها، وفي أميركا اللاتينية أُبيد السكان الأصليون، وبيعت أجسادهم في أسواق الرقيق.

ثم أُعيدت كتابة التاريخ ليظهر كل هذا الخراب وكأنه انتصار للتنوير على ظلمات التخلف والهمجية.

والمفارقة أن الإرهاب الحقيقي – بكل وحشيته – لم يولد في كهوف أفغانستان، بل نشأ أولا في مزارع القطن بأميركا، حيث كانت أجساد الزنوج تُعلق كثمار موت سوداء على الأشجار.

ولد في الغرف المعتمة التي خُطِّط فيها لإبادة 80 مليون هندي أحمر باسم “التمدن”، وفي قوانين بريطانيا التي كانت تمنح الجوائز مقابل كل فروة رأس هندي.

هذا هو الإرهاب الممنهج، المشرعن، المُحتفى به.

فبينما يُوصم الآخرون بالإرهاب بسبب ممارسات فردية أو جماعات هامشية، يظل إرهاب الغرب مؤطراً ضمن ” تاريخ مقدس ” لا يُمسّ ولا يُحاسب عليه أحد.

بعد كل هذا التاريخ الدموي، من المعيب أن يتحدث أحد عن “الإرهاب الإسلامي” دون أن تطاله رعشة خجل.

فالواقع أن الإرهاب الحقيقي، هو من استُبيحت باسمه القارات، وقُطعت أشلاء الملايين دون اعتذار أو مساءلة.

تؤكد الكاتبة باسكال بروكنر هذه الفاجعة حين تقول:

“أميركا أُسست على جريمة مضاعفة: إبادة الهنود الحمر واسترقاق السود، وهي لاتزدهر إلا تحت تهديد المدافع، ولا تعبأ بالمؤسسات الدولية”.

إن مقالي هذا ليس صرخة غاضبة قادمة من الشرق، ولا محاولة للانتقام الفكري، بل نقل لشهادات صادقة من داخل الغرب ذاته.

لقد قامت أميركا، رأس الحربة في معسكر “العالم الحر”، على منطق الغلبة لا العدالة، وعلى أرباح تجارة الرقيق لا على مبادئ الحرية والنزاهة.

ثقافتها استندت إلى “أخلاقية التفوق”، التي تبرر لها القتل طالما أن الضحية ليس إنسانا أبيض.

بهذا المنطق، تحوّل احتلال بلدان الآخرين إلى “تمدين”، ونهب ثرواتها إلى “استثمار”، والمجازر التي ترتكبها إلى “أخطاء عابرة”، وتُوصم كل مقاومة للهيمنة بالإرهاب.

إن الإرهاب الغربي ليس عارضا طارئا، بل جزء من البنية الثقافية التي تأسست عليها هذه الحضارة.

لم يبدأ الإرهاب في غزة أو دمشق أو بغداد، بل بدأ في واشنطن ولندن وباريس، حين صيغت العقيدة القائلة إن التفوق الأبيض يعلو على كل الشعوب والقيم الأخرى.

في ظل هذا الواقع، ينبغي علينا أن نعيد تعريف الإرهاب لا وفق قوائم وزارات الخارجية، بل وفق الضمير الإنساني الحيّ .

فالإرهاب هو كل عنف يُمارس لإخضاع الآخر، وكل خطاب يبرر القتل باسم التفوق العرقي.

أما ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، فمع رفضه المطلق أخلاقيا ودينيا، فإنه انعكاس لقرون من الاستعمار والإذلال والاستغلال.

والأخطر من ذلك أن الإرهاب الغربي اليوم يتخذ أشكالا جديدة: عقوبات اقتصادية تُجَوِّع الشعوب، ودعمٌ للأنظمة القمعية، وإعلامٌ مشوَّه، وسرديات ثقافية تُزيِّف الحقيقة والواقع.

لقد آن للعالم أن يراجع نفسه، وعلى الغرب أن يتحرر من وهم براءته، ويعترف أن حضارته قامت على جماجم الشعوب، وأن الإرهاب كان – وما يزال – جزءا من بنيته الثقافية.

إن من يقتل ويحتل وينهب، ثم يكتب القصة ليظهر بطلا، هو أول من ينبغي عليه أن يُحاسب.

ولعلّ السؤال الذي يجب أن يُطرح بلا مواربة:

لماذا يطالب الغرب الآخرين بالاعتذار، بينما هو لم يعتذر يوما عن جرائمه في الجزائر وأفريقيا وآسيا؟

لماذا تُدرَّس المحرقة في كل كتب الغرب، بينما تُغيب مجازر فرنسا، وبريطانيا، وبلجيكا عن ذاكرة الطلاب في المدارس والجامعات؟

والأخطر من النسيان أو التناسي هو التبرير: حين يتحوّل القتل إلى ” ضرورة سياسية “، والاحتلال إلى ” عملية تحرير “، هنا ندرك أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الماضي، بل في العقل الذي ما زال يُنتج مثل هذه المآسي.

علينا أن نُفرق بين الغرب كفضاء ثقافي مفتوح، وبين الغرب كأداة هيمنة استعمارية.

ففي الغرب مفكرون أحرار ومؤرخون شجعان، لكن يتم تهميشهم وشيطنتهم لأنهم يفضحون زيف السردية السائدة.

اليوم، يجب أن يُعاد تعريف الإرهاب.

يجب أن تُصنف معسكرات الاعتقال الإسرائيلية في غزة والضفة كأدوات رعب، لا دفاع عن النفس.

يجب أن يوضع قتل الأطفال وقصف المستشفيات ضمن خانة الإرهاب، لا “الأخطاء العسكرية”.

إن العدو الأول للسلم العالمي ليس الشرق الأوسط، بل عقلية التفوق الغربي والصهيوني التي لم تُهزم بعد.

مقالي هذا تذكير بأن العدالة لا تُبنى على النسيان أو التناسي، ولا على الازدواجية، وأن مقاومة الإرهاب تبدأ أولا من مقاومة السردية التي أنتجته.

فلا سلام في العالم مع أساطير تفوق الأبيض.

ولا مستقبل لحضارة تأبى الاعتراف بدمويتها وتصر على التغني بجراح ضحاياها.

فالحقيقة لا تظل مغيّبة إلى الأبد، وما تزرعه الأمم اليوم من ظلم، سيجنيه الأجيال القادمة من ضياع للعدالة وامتهان لحقوق الإنسان، وستظل هذه الآثار لعنة تلاحقهم إلى الأبد.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. سلمت يمناك أستاذنا الفاضل محمد الفريدي على هذا المقال الرائع الذي يلخص بدقة حقيقة الحضارة الغربية وعقيدتها العنصرية التي كانت سبباً في حدوث جرائم كبرى مروعه ضد الإنسانية. وكما ذكرت في مقالك، هناك في الغرب مفكرون أحرار ومؤرخون شجعان، منهم البروفيسور الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي ومنذ ستينيات القرن العشرين كان ناقداً مؤثراً للسياسات الخارجية الأمريكية والإمبريالية الغربية. ولطالما حذر من مخاطر التحالف المسيحي-اليهودي الصهيوني على السلم والأمن الدوليين. وهو يعتقد أن هناك دولتين مارقتين في العالم لا تحترمان القانون الدولي وتشكلان تهديداً حقيقياً للسلام العالمي وهما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. مرة أخرى، كل الشكر والتقدير لك أخي العزيز محمد على مقالاتك القيمة التي تنافش قضايا تهم المجتمع السعودي والعربي والإسلامي.

  2. أستاذ محمد الفريدي رئيس تحرير صحيفتنا الغراء
    لا يسعنا جميعا إلا أن نرفع القبعة لقلمك احتراما وتقديرا وفخرا أمام هذا المقال العميق الذي خطه قلمك الذهبي ، والذي لم يكن مجرد نص صحفي، بل كان صوتا صارخا في وجه الزيف التاريخي، وعدسة ناقدة تكشف المستور في سرديات “الحضارة” الغربية. بأسلوب بليغ، ولغة راقية، وغوص في عمق التاريخ والسياسة،
    لقد استطعت أن تنسف الأساطير المزيفة لتفوق الأبيض، موقظا الضمير الإنساني وسط ضجيج الدعاية وازدواجية المعايير .
    لقد تجلت في مقالك شجاعة الكلمة👍، ونزاهة البحث عن الحقيقة👍، ووفاء لا يتزعزع لقضية عادلة👍؛ فكان صوتك امتدادا لصرخات المظلومين تحت أنقاض غزة، وضميرا حرا ، صوتك يكتب لا ليرضي ، بل ليواجه👍 ، وليذكر أن الكلمة إذا صدقت، كانت فعل مقاومة بحد ذاتها …
    بوركت وبورك قلمك الذهبي👍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى