الوحش البدائي فينا لم يمت

محمد الفريدي
الوحش البدائي فينا لم يمت
“هل يتقاتل البشر لأنهم يحبون القتال؟
أم أن القتال غريزة متأصلة في النفس البشرية؟”
بهذه الأسئلة بدأ الفيلسوف البريطاني الراحل برتراند رَسل كتابه الشهير لماذا يتقاتلالبشر؟، ليضعنا أمام مرآة سوداء تعكس حقيقة طالما تجاهلتها الإنسانية:
نحن لسنا فقط مخلوقات عاقلة، بل مخلوقات تميل إلى الصراع، إلى الهيمنة، وإلى إقصاء الآخر.
ربما لم يعد القتال اليوم كما كان في زمن السيوف والرماح، لكنه ما زال قائما؛ بأشكال أكثر تعقيدا، وأكثر خبثا وتدميرا.
فبينما نرفع شعارات التعايش، ونؤسس جمعيات للسلام، ونحتفي بمناسبات الأمم المتحدة لنبذ العنف، يستمر العالم في دورته العنيفة:
دول تتصارع، وأحزاب تتناحر، وطوائف تتقاتل، وقلوب تمتلئ بالحقد على بعضها ، حتى وإن تظاهرت بالسلام.
لا يمكننا فهم هذه الظاهرة أو اختزالها في غريزة فطرية فقط، رغم أن التاريخ الإنساني يزخر بصور العنف منذ بداياته؛ لكن الغريزة وحدها لا تبرر استمرار الحروب، رغم كل التقدم العلمي والحضاري الذي وصلنا إليه.
فالإنسان المعاصر – برغم عقله المتطور – لا يزال يحمل في داخله بقايا “وحش بدائي”، ورهينة لعوامل نفسية، وثقافية، واقتصادية، تدفعه للقتال، حتى وهو يرتدي أفخر الثياب ويتحدث عن حقوق الإنسان في قاعات المؤتمرات.
أحد أبرز دوافع الصراع هو الاقتصاد، والتنافس على الموارد الطبيعية، والسيطرة على الأسواق، واحتكار النفط أو المياه أو حتى الأفكار.
كلها وقود لحروب لا تنضب؛ بعضها بارد، وبعضها مشتعل، ومعها تأتي الجغرافيا السياسية لتفرض سطوتها، فتصبح شعوبٌ ضحية موقعها بين مطرقة الطموحات وسندان المصالح الدولية.
في هذا السياق، يصبح القتال وسيلة لا غاية، وأداة تستخدمها الدول الكبرى لتحقيق أهدافها تحت شعارات خداعة، منها نشر الديمقراطية، ومحاربة الإرهاب، وحماية الأقليات.
وكل هذا، في الحقيقة، أعذار واهية تُخفي نهم السيطرة، والرغبة في فرض الهيمنة.
لكن الأخطر من كل هذا هو الصراع على الهوية، حين يتحول الاختلاف الديني أو الطائفي إلى مبرر للقتل والإقصاء.
في مجتمعاتنا العربية، عانت شعوب كثيرة من هذا الشكل القاتل.
فالطائفية اليوم، وإن تزيّنت بأسماء الحداثة، لا تزال تمزّق الأوطان، وتفتّت المجتمعات، وتحول الوطن الواحد إلى كانتونات صغيرة تتنازع فيما بينها على أحقّية الولاء والانتماء.
الطائفية ليست مجرد مرض اجتماعي، بل سلاح فتاك يستخدمه أعداء الداخل والخارج لبث الفتنة.
هي لعبة خبيثة تُدار بعناية: تبدأ بخطاب تمييزي في الإعلام، مرورا بالتوظيف الانتقائي، وانتهاء بإعادة تشكيل الهوية الوطنية لتصبح طائفة قبل أن تكون وطنا.
ما يشهده العالم من صراعات لم يعد دمويا في مظهره فقط، بل أصبح يُدار “بنعومة”:
فرز طائفي في الوظائف، وتمييز في الفرص، وتجاهل ممنهج لفئة من المواطنين.
كلها صور جديدة من القتال، لكنها لا تُرى بالعين المجردة.
وهذا ما سماه بعض المفكرين بـ”العنف البارد”، عنف لا يترك جروحا على الجسد، لكنه يقتل الروح.
هنا تكمن خطورة المرحلة: حين يصبح العنف مؤدلجا، صامتا، يصعب كشفه أو مقاومته.
يتحول إلى جزء من الثقافة اليومية، يُمارس دون وعي، وتعتاده الأجيال وكأنه سلوك طبيعي.
والحل يبدأ بالاعتراف أولا بوجود المشكلة، وأن نتخلى عن عقدة التفوق، وعن النظرة الدونية التي يتبناها كل طرف تجاه الآخر.
علينا أن نبني ثقافة جديدة، ثقافة ترى الإنسان قيمة لا هوية، وتحتفي بالتعددية بدلا من كراهيتها.
إن مواجهة القتال تبدأ من البيت، ومن المدرسة، ومن المسجد، ومن الكنيسة والكنيس والحسينية، ومن الإعلام، ومن كل منبر يخاطب العقول.
تبدأ حين نزرع في أطفالنا احترام الاختلاف لا الخوف منه، وحب التعددية لا رفضها.
تبدأ حين تصبح الوطنية شاملة، تتسع للجميع، ولا تُختصر في مذهب أو قبيلة أو طائفة أو عائلة.
المملكة، وهي تقود اليوم مشروعا وطنيا طموحا، مطالبة بأن تدرك أن التنمية لا يمكن أن تتحقق في ظل الطائفية، وأن “رؤية السعودية 2030” لا تكتمل إلا إذا أصبح كل مواطن شريكا حقيقيا في التنمية، لا ضحية لفرز طائفي أو تمييز اجتماعي
الطموح نحو المستقبل يتطلب تطهير الداخل من كل عوامل الانقسام.
يتطلب هدم “المعبد الطائفي” وبناء بدلا عنه “وطن المواطن”.
فالتحدي الحقيقي ليس في ناطحات السحاب، بل في بناء إنسان يرى في وطنه بيتا له، لا ساحة صراع لهوياته.
“لماذا يتقاتل البشر؟”… الجواب لا يكمن في جيناتنا، ولا غرائزنا، بل في ثقافتنا.
حين تكون ثقافتنا مشبعة بالكراهية، يصبح القتال حتميا.
وحين تُغرس في عقولنا قيم العدالة والتسامح، يصبح السلام ممكنا.
القتال ليس قدرا، هو خيار.
والمستقبل ملك لمن يختار السلام، ويؤمن أن الإنسان أعظم من كل الطوائف، وأسمى من كل الهويات الفرعية.
لكن لعل من أكثر الجوانب إيلاما في مشهد التقاتل البشري، هو تواطؤ الصمت، حين تصمت النخب، وتخون رسالتها في التنوير، إما بدافع الخوف أو المصالح، أو – وأسوأ من ذلك – حين تتحول إلى أدوات تبريرية لتكريس هذا التقاتل بوجوهه المتعددة.
في كل حقبة مضطربة، كانت هناك نخب ترقص على حافة الجراح، تشرعن الطغيان، وتسوّق للفرز الاجتماعي، تحت عباءة الدين تارة، أو باسم الوطنية تارة أخرى.
هذا التواطؤ هو ما يسمح لـ”الوحش البدائي” داخلنا بالظهور، لأن الصراع حين لا يُدان علنا، يصبح معتادا، بل مبررا للجميع، وحين تُدفن الضحايا تحت ركام الخطابات المضللة، لا يعود أحد يسأل: لماذا؟ وكيف؟ ومن المسؤول؟
وفي ظل هذا الواقع، يجب أن نتساءل بجرأة:
هل الدولة الحديثة في عالمنا العربي قادرة على تجاوز الهويات القاتلة؟
أم أنها لا تزال أسيرة توازنات طائفية، ترعاها وتغذيها باسم “الوئام المجتمعي”؟
الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من أعلى الهرم فقط، بل من قواعد المجتمع، من المناهج، من الإعلام، من المؤسسات التي تبني الوعي، أو تهدمه.
إن إعادة تشكيل وعي المجتمع، ليكون وطنيا لا طائفيا، وإنسانيا لا عشائريا، هو التحدي الأخلاقي الأول لأي مشروع نهضة.
فلا يمكن الحديث عن تقدم أو استقرار، في ظل شعور ملايين المواطنين بأنهم مجرد “مقيمين” في وطنهم، لأن اسمهم أو مذهبهم لا يناسب سردية الأغلبية أو مزاج النخبة الحاكمة.
وحين يُقصى المواطن عن وطنه، يفقد ولاءه، ولا يحب وطنه، ولا يدافع عنه، ويتحول إلى عدو داخلي أو فريسة سهلة للتطرف والإرهاب.
عندها ندرك أن أخطر معاركنا ليست مع الخارج، بل مع داخلنا المتصدع، ومع نفوسٍ آثرت الكراهية على العدالة.
لقد آن الأوان أن نصنع وعيا جديدا، وعيا يتجاوز الأيديولوجيات الضيقة، ويرتقي إلى فضاء الإنسانية الرحب.
وعيٌ يرى في الآخر مرآة له لا خصما، وفي الاختلاف نعمة لا لعنة، وفي الوطن شراكة لا ملكية خاصة لفئة دون أخرى.
فحين نبدأ بهذا الوعي، يمكن أن نقول: إن الوحش البدائي فينا بدأ ينام، وإن الإنسان فينا بدأ يستيقظ من جديد.
أرفع القبعة للأستاذ محمد الفريدي رئبس تحرير صحيفتنا الغراء على مقاله العميق “الوحش البدائي فينا لم يمت”
و الذي نجح فيه بمهارة لافتة في تسليط الضوء على التناقض الجوهري في النفس البشرية بين إدعاء التحضر وميلها الغريزي إلى الصراع.
لقد صاغ مقاله بأسلوب فكري رصين ، يزاوج بين عمق الطرح الفلسفي وسلاسة التعبير ، مستندا إلى مرجعيات فكرية معتبرة مثل برتراند رسل، ليضع القارئ أمام حقيقة غالبا ما نتجاهلها عن قصد: أن الإنسان، رغم تطوره، لم يتخل عن وحشيته الأولى.
إن هذا النوع من الكتابات لا يكتفي بإثارة الأسئلة الكبرى، بل يوقظ وعينا، ويحثنا على التأمل في طبيعتنا، ويعيد ترتيب أولوياتنا في فهم العالم والذات.
فكل الشكر والتقدير للكاتب المبدع أ. محمد الفريدي على هذا الإبداع الفكري، الذي يستحق أن يقرأ مرارا وتكرارا ، ويُتناول ويُدرس كنموذج للكتابة الواعية ذات الرسالة👍👍
فهم الإنسان، أستاذي الكريم محمد، منذ زمن بعيد جداً عقيدة الغاب، التي تقول إن البقاء والأفضلية هي للأقوى والأذكى فقط، وهم قلة، أما الضعفاء والأغبياء فلا أفضلية لهم، ويجب تسخيرهم لصالح القوي والذكي، وهم كثرة ومهددون دائماً بالفناء. وهذه العقيدة الإجرامية المتوحشة هي ما تؤمن به بعض الشعوب الأوربية بالذات، حيث قاموا قديماً بشن الحروب الصليبية الدامية على الدول الإسلامية، وقاموا لاحقاً باحتلال أمريكا الجنوبية والشمالية واستراليا ونيوزيلندا بعد أن أبادوا معظم سكانها الأصليين، ثم حديثاً استعمروا عشرات الدول في أسيا وأفريقيا ونهبوا خيراتها بعد أن قتلوا مئات الملايين من شعوبها، وقرروا منح اليهود الصهاينة أرض فلسطين. وهي نفس العقيدة التي كان يؤمن بها هتلر وحكومته النازية، وما تؤمن به الدول الغربية الإمبريالية في هذا العصر بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. وهذه العقيدة هي سبب امتلاك 1% فقط من سكان العالم في الوقت الراهن حوالي 50% من ثروات العالم. وهي أيضاً ما تؤمن به بعض النخب الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، حيث قامت بنهب خيرات بلدانها والعبث بها، وعاملت شعوبها معاملة القطيع، وتسببت في ضعف وتخلف أوطانها. إن دين الإسلام، دين العدل والمساواة والنزاهة والشفافية والرحمة والتسامح والتعايش، هو ما نعيشه في بلدنا الغالي ولله الحمد، وهو الحل لعلاج كافة مشاكل الإنسان، ووقف جميع تلك الكوارث والمآسي والأزمات التي تسببت فيها شريعة الغاب الإجرامية المتوحشة تلك.