كُتاب الرأي

إنسان النصف والحراحيص و الحرحصه

في مجتمعنا المعاصر، يبرز نمط معين من البشر، كان يسميهم الفيلسوف والمفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي- رحمه الله- بـ “إنسان النصف”، ونحن نسميهم بـ “الحراحيص”، وبأسماء أخرى من غير اللائق ذكرها .

هذا النوع من البشر، يتميزون بشغفهم بالمطالبة بحقوقهم كاملة في مختلف مناحي الحياة، سواء في العمل، أو المدرسة، أو حتى في حياتنا العامة، ويحصلون عليها، وفي نفس الوقت لا يلتزمون بالواجبات الملقاة على عاتقهم.

يمضي هؤلاء “الحراحيص” ساعاتهم في المؤسسات التعليمية والوظيفية دون هدف حقيقي يذكر، ودون رغبة في الإنجاز، أو رغبة في التعلم، يكتفون فقط بتلقي المعلومات الضرورية لاجتياز الاختبارات، ويقدمون ادني المتطلبات الأساسية للوظيفة، ولا يظهروا أي علامات للرغبة في التفوق، أو الابتكار، أو حتى الإبداع في مجالات عملهم أو دراستهم.

الإشكالية الرئيسية لـ “إنسان النصف” تكمن في مطالبتهم بحقوقهم وعدم قيامهم بواجباتهم، هذا النهج يعتبر مؤشرا على نقص في النضج الشخصي والمهني، ويفتقر الفرد المصاب بإنسان النصف إلى الفهم الكامل بأهمية العطاء قبل الأخذ، وأهمية المشاركة الفعالة في المجتمع.

فمن الضروري أن ندرك أن الحياة المهنية والأكاديمية تقوم على مبدأ التبادل المتكافئ، لا يمكن للمرء أن يتوقع النجاح والتقدير دون أن يبذل جهدا حقيقيا، أو مساهمة فعالة حقيقية، الالتزام بالواجبات ليس فقط مسؤولية، بل هو أيضا جزء من العقد الاجتماعي الذي يعزز التقدم الشخصي والمهني.

لذا، يجب على الأفراد الذين وقعوا في فخ “الإنسان النصفي” أن يعيدوا تقييم نهجهم في الحياة، من خلال التزام أكبر بالمسؤوليات ورغبة أقوى في التعلم والتطور، حتى يمكنوا من تحقيق الكثير لأنفسهم ولمجتمعهم، فالحياة تكافئ الذين يستثمرون فيها بجد وإخلاص، وليس الذين يبحثون فقط عن الحصول على المكافآت دون بذل مجهود يذكر.

التغيير نحو الأفضل يبدأ بالاعتراف بأن النمو الشخصي والمهني يتطلب أكثر من مجرد المطالبة بحقوقنا، يتطلب التزاما بالمساهمة الإيجابية والاستفادة الكاملة من الفرص المتاحة، ولعل أبرز خطوة يمكن لـ “إنسان النصف” أن يتخذها، هي تجاوز هذا السلوك السلبي، والبدء في تقدير القيمة الحقيقية للجهد والمثابرة.

من المهم جدا أن يدرك الجميع أهمية التفاعل الإيجابي مع بيئاتهم، سواء كانت تلك البيئات تعليمية أو مهنية، وأن يدركوا أن النجاح في العمل أو الدراسة يتطلب نهجا يعتمد على البذل ﻭ العطاء، والقيام بالواجبات علي الوجه المطلوب، والاستكشاف، والرغبة في التعلم والتطور، وليس فقط في الرغبة بالحصول على الحقوق، وتحقيق الجوانب السطحية في هذه الحياة.

إن الإلمام بمفهوم العطاء قبل الأخذ يمكن أن يحول “إنسان النصف” إلى شخص يسهم بشكل فعال في مجتمعه، هذا التحول لا يعود فقط بالنفع على الفرد من خلال تعزيز مهاراته وقدراته، بل يعود بالنفع أيضا على مجتمعه ككل، الأشخاص الذين يعملون بجد وإخلاص ويستثمرون في تطوير أنفسهم يصبحون موارد قيمة في أي مجال يختارونه.

بالتالي، من المهم أن يعتمد التعليم والتدريب المهني وإعلامنا على ترسيخ هذه القيم لدى الطلاب والموظفين والمواطنين جميعا، وأن تشجع برامجنا التعليمية والتدريبية على التفكير النقدي، والابتكار، والمبادرة، وأن تكون مصممة بطريقة تحفز الأفراد على الاستفادة الكاملة من مواهبهم وقدراتهم.

فـ “إنسان النصف” لديه فرصة كاملة ليتحول إلى شخص كامل الأداء، متكامل القدرات، يسهم في بناء مجتمعه وتحقيق النجاحات الشخصية والإنجازات الوطنية، إذا تحمل المسؤوليات بجدية، واستفاد من الفرص المتاحة، عندها يستطيع أن يتخطى مراحل النصفية و “الحرحصه”، ويصبح قوة دافعة للتغيير الإيجابي على جميع الأصعدة.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫4 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما شاء الله تبارك الله
    مقال جميل ورائع
    إلى الأمام دائما وابدا…
    يا أبا سلطان

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
      أشكرك يا دكتور على تعليقك الجميل، ونسعد دائما بإضاءاتك الجميلة، في أي موضوع، وفي أي وقت.
      شكرا لك مرة أخرى على كلماتك اللطيفة، ونتمنى لك دوام السعادة والتوفيق في جميع مجالات حياتك.
      تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى