كُتاب الرأي

١٠ من ١٠ لقاء ما خسرته من حبر

في سنوات دراستي بالمرحلة الثانوية تعلمت درسا قيما لم أنسه ولم يكن موجودا في كتبنا المدرسية، بل تعلمته من تجارب الحوار والنقد والتحليل التي كان يدربنا عليها أستاذنا المصري القدير الأستاذ/ أحمد عبد الحليم قنديل رحمه الله، فقد تعلمنا منه أن نستوعب الأفكار المتعددة، وان لا نكتفي بوجهة نظر واحدة ولو كانت هي السائدة في المجتمع أو مألوفة لدى الجميع.

في البداية كنا نتمسك بنقطة معينة نراها في الموضوع ونركز عليها، ولكن مع الوقت، بدأنا ندرك أهمية التعمق أكثر في المواضيع التي نقرؤها، وبعد ذلك تطورنا وأصبحنا ننظر إليها من زوايا مختلفة.

كان يقول لنا- رحمه الله-:
“انظروا إلى النحلة ستجدون أن لها أكثر من معدة تمكنها من امتصاص أنواع متعددة من رحيق الأزهار، كذلك يجب عليكم أن تتغذوا فكريا من مصادر متنوعة لتهضموا جميع الأفكار بشكل أفضل وتخرجوا بأفكار جديدة لها طعم، ولون، ومذاق مختلف”.

تعلمت منه- رحمه الله- أن كل فكرة يمكن أن تتفرع وتنمو وتصبح كشجرة عظيمة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وان أفكارنا تتوالد وتتكاثر بعملية التحرير والكتابة، أو حين نتعامل مع النصوص كما يتعامل الأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية الدقيقة في غرف العمليات دون أن يتركوا المقص في بطن المريض عن طريق الخطأ بعد الانتهاء من العمليات الجراحية.

في تلك الفترة كانت المواضيع الفلسفية تمثل تحديا خاصا بالنسبة لنا، وأتذكر بأنني شعرت بأنني قد أصبحت فيلسوفا بعد أن قرأت كتابا لأنيس منصور في الفلسفة نصحنا بقراءته أستاذنا رحمه الله، وكتبت موضوعا من عدة صفحات دون أن المس جوهر الموضوع الذي طلب منا أن نكتب عنه أستاذنا، أو يرتبط ما كتبت به من قريب أو بعيد، فكتب بالقلم الأحمر بين قوسين في نهاية آخر صفحة وهو يصحح أوراق الطلبة ويبتسم:
(١٠/١٠ لقاء ما خسره محمد من حبر في كتابة الموضوع).
كان يقول لنا -رحمه الله- دائما بأن الكتابة التي لا تتناول المواضيع المطروحة بعمق شديد هي في النهاية خسارة للحبر الذي كتبت به.
ومن هنا تعلمت بألا أهدر طاقتي فيما لا يفيد.

تعلمنا منه بأن تحليل أي موضوع أو تحريره يتطلب مهارة وفهما عميقا ومعرفة جيدة عما نتحدث عنه، وأين نضع بدقة كلماتنا، ﻭ عباراتنا موضوعة في سياقها الصحيح، فالتحليل والتحرير وجهان لعملة واحدة، كلاهما يتطلبان الدقة والوضوح والتركيز على المعنى والمحتوى في نفس الوقت.

تعلمنا منه بأن تكون أفكارنا متشابكة مترابطة مرئية للجميع، كأن نرسم شجرة في كراسة رسم وكل غصن فيها يتجه لاتجاه معين، وبعد ذلك نضع عليها بقية التفاصيل، كذلك الفكرة تبنى على أسس واضحة وقواعد محددة، وعندما نحرر موضوعا معينا، علينا أن نكون في محل الطبيب الذي يخطط لعملية جراحية، أو كالمهندس الذي يضع تصميم معماري لمبنى مكون من عدة طوابق ويضع كل جزء في مكانه ليكتمل البناء بشكل متكامل وصحيح.

وأهمية التحليل والتحرير عند أستاذنا كانت تكمن في قدرتنا على توضيح أفكارنا وتقديمها للآخرين بطريقة منظمة ومفهومة، وكان يقنعنا- لله دره- ونحن من “جنبها” بأننا كلنا قادرين بالممارسة والتجربة أن نقدم أفكارنا بوضوح للقراء والمستمعين، فمهارات التحليل وتركيب المعاني وصياغتها تعد عنده من أهم المهارات التي يجب أن يمتلكها كل شخص يعمل في مجال الكتابة والتحرير والتأليف.

من خلال تجربتي في المدرسة الثانوية، أدركت بأن التحليل والتحرير ليسا مجرد أدوات لكتابة الأوراق الدراسية أو الإبداعية أو الأدبية، بل هما أيضا جزءا أساسيا من تفكيرنا النقدي وقدرتنا على فهم ومعالجة النصوص والمعلومات بشكل نموذجي وفعال، ولا زالت هذه المهارات التي اكتسبناها منه تساعدنا إلى اليوم على فهم العالم من حولنا بشكل أعمق وأكثر دقة، وتمكننا من التعامل مع التحديات المعقدة بطريقة منظمة ومدروسة وتحتوي درستنا لأي موضوع على جميع هذه التفاصيل التي تعلمناه منه- رحمه الله- رحمة واسعة.

التحليل والتحرير هما أكثر من مجرد جزء من منهج دراسي كنا ندرسه من قبل خمس وخمسين سنة في مادة (البلاغة والنقد)، بل هما جزء لا يتجزأ من ممارساتنا اليومية يساعدنا في بناء تصور أعمق للأمور وتطوير قدراتنا على التواصل الفعال لنقنع بأفكارنا الآخرين، فاستطعنا أن ننمي قدراتنا على التأثير بطريقة إيجابية، وأفكارنا تصل إلى القراء بشكل مباشر وبأقل جهد وبأبسط العبارات.

تعلمنا في مدرستنا الثانوية بأن قدرتنا على تحليل وفهم المواضيع المتنوعة وتحرير أفكارنا بوضوح هما أساس التواصل الفعال، وان مقومات الحوار البناء لا تساعدنا على النجاح في مراحلنا التعليمية فحسب، بل تمتد لتشمل مساعدتنا في حياتنا العملية والشخصية.

كل ذلك كان يعود لأستاذنا القدير الذي كان يعلمنا كيف نبني أفكارنا ونقدمها للأخريين بطريقة منظمة، وكيف نفهم المواضيع بعمق قبل أن نبدأ بالكتابة، وكيف نحدد نقاطنا الرئيسية التي نحتاج إليها في البحث والتوسع بعد ذلك، في عملية تشبه بالضبط كما كان يشبهها- رحمه الله- بعمل الطبيب الذي عليه أن يفهم كل جوانب الحالة المرضية للمريض قبل إجراء العملية الجراحية، أو بعمل المهندس الذي عليه أن يلم بكافة جوانب المشروع قبل أن يبدأ في عملية البناء.

تعلمنا منه أيضا أن نقدم أفكارنا بطريقة منطقية، وبتسلسل يسهل على الآخرين فهمها بسهولة، وأن نبنيها بطريقة تجعل كل جزء يدعم الجزء الذي يليه، لنخلق تدفقا طبيعيا ومنطقيا للمعلومات، ونكون بالإضافة لذلك، واضحين، ومحددين في اختيار كلماتنا، لأن الغموض قد يؤدي إلى سوء الفهم.

ثم أدركنا بعد ذلك أن التحليل والتحرير ليسا فقط في جمع المعلومات وتقديمها، بل في القدرة على التفكير النقدي بشكل سلس ومتسلسل وسليم، وأن نسأل أنفسنا دائما: ما الذي يجعل هذه المعلومة مهمة؟ وكيف ترتبط بالموضوع الرئيسي؟ وما الذي يمكن أن يتعلمه الآخرون من كتاباتنا وحواراتنا؟
كل هذه الأسئلة كانت تساعدنا على التركيز في الجوهر وتجنبنا الانحراف عن صميم موضوعنا الذي نكتب عنه.

تعلمنا أن القدرة على التحليل والتحرير هي أدوات حيوية لأي شخص يرغب في التفاعل بفعالية مع العالم من حوله، سواء كان من كتاب الصحف الذين يكتبون المقالات، أو من المتحدثين الذين يشاركون في الحوارات، أو من الذين يعدون التقارير لأعمالهم العامة أو الخاصة في كافة المجالات والتخصصات، أو حتى من الذين يحاولون فهم وجهات النظر المختلفة، فإن قدرتهم على تقديم أفكارهم للأخريين بوضوح وتحليلها بعمق تمثل أساس التفاهم والتواصل البناء.

في مدرستنا الثانوية، تعلمنا أن الكتابة والتحليل ليسا مجرد تعبير عن أفكارنا فحسب، بل هما عمليتان بناء وتركيب تتطلب فهما عميقا للمواد، ومرونة في التفكير، وتطويرا لمهاراتنا التي ما زلت أستفيد منهما إلى يومنا هذا في جميع جوانب الحياة.

على فكرة. كل فكرة، مهما كانت صغيرة، تحمل في طياتها إمكانات تطويرها، وفهمها بشكل أعمق وأكثر تعقيدا، فقد تعلمت منه- رحمه الله- أن الفكرة الجيدة تشبه البذرة التي عندما تزرع في تربة خصبة تنبت وتورق وتزهر، وبإمعان الفكر والتحليل في أي فكرة، يمكن أن تنمو وتتفرع إلى أفكار وحوارات جديدة قد تؤثر أو تغير من طريقة فهمنا للعالم من حولنا.

تعلمت منه أن التحليل والتحرير ليستا مجرد مهارات للنجاح في الامتحانات، بل إنهما ضروريان لأي شخص يسعى لفهم أعمق وأكثر شمولية للقضايا التي تواجه مجتمعه، ومن خلال تطوير مهاراتنا، سوف نصبح بلا شك أكثر قدرة على التعاطي مع التحديات المعقدة بطريقة منظمة ومدروسة، وبالتالي سنتمكن من اتخاذ قرارات أكثر عقلانية ومصداقية ووضوح، ونبني مستقبلا أفضل لأنفسنا ولأجيالنا القادمة.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    يحسن بنا دائما تذكر المواقف الإيجابية لمن علمنا ونشكرهم جميعا على ما قدموا لنا …
    أحسنتم أحسنتم
    وإلى الأمام دائما وابدا…

  2. جزاك الله خير حينما ذكرت مواقف معلمك النبيلة معك ومع زملائك ونسأل الله ان يغفر له ويرحمه ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى