كُتاب الرأي

علم ولدك كيف يكون شرسا مثل الذئب المفترس

في أحد الأيام، دار بيني وبين صديق لي غير عربي نقاشا مطولا حول الدين، والتربية، والثقافة، والحياة الأسرية.

كان يقص علي بأن والديه لم يكونا متدينين ومن أولئك الذين يتشددون في التربية، ويستندون على جدار العادات والتقاليد والأعراف التي تشكل نسيج مجتمعهم الذي نشئوا فيه.

شرح لي كيف أن الكذب كان من أكثر المحرمات في بيتهم، وأن الصدق والضمير الحي كانا الدرع الواقي في مواجهة الحياة القاسية، بغض النظر عن نوايا الآخرين، سواء كانت طيبة أو سيئة، ومع ذلك، كان يتنهد صديقي ويستذكر تلك القيم، ويعترف لي بأنه يجد صعوبة في تعليم ابنه اليوم ما تعلمه من أبويه، فقد واجه في حياته أقسى أنواع الاستغلال، ووجد أن الصدق لم يكن دائما ملاذا آمنا أو وسيلة للنجاة.

أخبرني بأن والديه لم يعلماه كيف يكون شرسا مثل الذئب المفترس، ولا كيف يحمي نفسه من غدر الأصدقاء، ولا كيف يكون ماكرا ليتغلب على كثير من العداوات، وبينما يستلقي للنوم في كل ليلة وضميره مرتاح لعدم ظلمه لأحد، إلا أنه يعيش معاناة الجروح التي تركها الآخرون في نفسه ولا يستطيع البوح بها حتى للمقربين.

ولهذا يحاول صديقي أن يستخدم أسلوبا مختلفا في تربية ابنه، وتحضيره لعالم يعج باللف والدوران والخداع والمكر والخيانة، والتحديات الكثيرة، وليس لعالم الخيالات والمثل والقيم التي تصورها لنا القصص الرومانسية والأفلام السينمائية، فالحياة الواقعية تحمل معها جانبها المظلم ومفاجآتها التي قد تكون أكثر من قاسية.

ويتساءل كيف يمكن أن يحمي ابنه من صدمات الحياة دون أن يحطم براءته، وكيف يعلمه التعامل مع السلبيات بطريقة تحافظ على قيمه، وفي ذات الوقت تحميه من الأذى، فهذا التوازن بين التربية على القيم والمبادئ والأخلاق وفهم الواقع بشكل صحيح، هو ما يشغل بال كل أب وأم في هذه الدول الغربية الآن.

إن المعضلة التي يواجهها صديقي هي كيفية تقديم دروس الحياة بشكل تجعل من ابنه قويا وقادرا في زمن يبدو فيه العالم أشبه بفسيفساء معقدة من الأطياف والألوان والأشكال المختلفة، وكيف يمكن للآباء أن ينقلوا حكمة الأجداد وتقاليد العائلة إلى الأجيال القادمة في عالم يتسم بالعدوانية والظلم والقسوة والتغيرات المستمرة والتحديات الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل.

في الواقع، نحن أنفسنا نتقاطع مع صديقي هذا، ومع تلك الأسر الغربية المحافظة، نحافظ على كثير من العادات والتقاليد والقيم وغير متدينين، وفي نفس الوقت نريد أن نربي أبناءنا بأن لا يكذبون ويتصفون بالمثالية والصدق في زمن لا يعرف إلا الكذب والتدليس والمكر والخيانة واللف والدوران.

لقد تعلم صديقي من والديه اللذين جاءا من أسرة غربية محافظة عميقة الجذور في تقاليدها وعاداتها، القيم التي كانت لها بمثابة الدرع والسند في مواجهة تقلبات الحياة، وكان الصدق والأمانة والضمير الحي، مثلث الفضائل التي كان يهتدي بها الإنسان الغربي في تعاملاته اليومية آنذاك، سواء في السراء أو الضراء، ولكنه اعترف لي بأن الواقع الذي واجهه كان أقل رحمة، وأكثر قسوة، ويتعارض مع تلك القيم النبيلة التي نشأ عليها.

واجه صديقي الخداع، والاستغلال، والظلم، والتنمر بكافة أشكاله في حياته، وبصورة جعلته يتساءل اليوم عن جدوى الصدق والقيم والمبادئ في عالم يكافئ الأشرار بأن يسرحوا ويمرحوا، ويترك الطيبين يعانون في صمت.
اعترف لي بأنه وجد نفسه غير مسلح بالأدوات اللازمة للتكيف مع واقع الحياة التي تتطلب أحيانا مواجهة الشر بالشر، أو بأعظم منه، أو على أقل تقدير بشراسة مساوية لشراسته، إن لم تكن أكبر منه.

واليوم يقف عاجزا أمام تحد جديد يتمثل في كيفية تعليم ابنه العيش في هذا العالم المعقد بحيوية وإصرار دون أن يفقد براءته ويحافظ على قيمه الأساسية التي تعلمها، وإن يجعله قويا واثقا من نفسه، خاصة وأنه يعلم أن حماية الأبوية لن تكون كافية دائما لصد الشرور التي قد تواجهه.
كيف يمكن للأب أن يحمي ابنه ويعده في نفس الوقت للصدمات المحتملة؟
كيف يمكن أن يحفظ له طهارة نفسه وسلامة عقله في عالم مجنون لا يمكن التنبؤ بمفاجآته وجنونه؟

إن التربية التي ترتكز على المثاليات قد تكون مريحة لنا كثيرا كآباء، ولكنها قد تترك الأبناء غير مجهزين لمواجهة الحقائق القاسية والتجارب الصعبة التي تعترض طريقهم في هذه الحياة، فالحياة ليست دائما وردية كما تصورها القصص الخيالية ﻭ القنوات الإعلامية المختلفة، ولا يمكن أن تكون محمية بالكامل داخل جدران الحب والأمان التي تحيط بالأسرة والمنزل.

اليوم يجد الآباء أنفسهم أمام مسؤولية تحضير أبنائهم للواقع بشكل يحافظ على قيمهم الأخلاقية ويعلمهم في نفس الوقت كيفية التعامل مع التحديات، والأبناء يحتاجون إلى فهم أنهم قد يواجهون أشخاصا لا يحملون نفس القيم التي يحملونها، وأنهم في بعض الأحيان قد يحتاجون إلى التكيف مع الظروف دون أن يفقدوا شيئا من مبادئهم وكرامتهم.

اليوم يتطلب الأمر إيجاد توازن بين تعزيز الثقة بالنفس وتقديم الدعم العاطفي، وتعليم الأبناء كيف يتصرفون بحكمة على الدوام، وكيف يدافعون عن أنفسهم بكل شراسة عند اللزوم، وكيف يضعون حدودا لكل من يفكر في أن يتجاوز حدوده عليهم، وكيف يعبرون عن آرائهم بكل وضوح وصراحة واحترام وبشكل فعال دون خوف من مقص الرقيب، وفي نفس الوقت، يحتفظون بقيمهم ومبادئهم في وسط هذه الضغوط والتحديات التي لا حصر لها، وتعصف بالجميع.

إن من الأهمية بمكان أن يُعلم الأبناء قيمة المبادئ والقيم وقيمة القوة الأخلاقية، وأن يتعلموا كيف يختارون أصدقاءهم الجيدين بدقة متناهية، وكيف يبنون في نفس الوقت شبكة علاقات قوية يعتمد عليها، وأن يفهم الأبناء بأن القوة الحقيقية لا تكمن في القدرة على الإساءة للآخرين، بل في القدرة على التعاطف والتفاهم والتعاون مع الجميع في بناء مجتمعات مثالية.

يجب أن يتعلم الأبناء أن الحياة قد تقدم تجارب صعبة، وأنهم قد يتعرضون للأذى والخيبة، ولكن هذا لا يعني أن الحياة لا تستحق الحياة، بل يجب أن يتعلموا كيف ينهضون بعد السقوط، وكيف يستخلصون الدروس العظيمة من التجارب السيئة.

إن تحضير الأبناء للحياة يعني تعليمهم كيف يتعاملون مع الفشل والألم بشكل يمكنهم من النمو والتطور الصحيح، وتعليمهم أن الشدائد التي يمرون بها تقوي من شخصياتهم، ﻭ تعلمهم الصبر والمثابرة، وان الأمور السيئة في حياتهم يمكن أن تتحول إلى دروس قيمة.

وإن نرب أبناءنا في زمن التحديات على الحب والتقدير بانتهاج التربية الواقعية، فالتربية فن معقد ورحلة دقيقة تتخللها مفاجآت الحياة وتقلباتها، وهي الأساس الذي نبني عليه مستقبل الأجيال القادمة.

فالعالم يسير بإيقاع سريع، والآباء يجدون أنفسهم أمام تحدي إعداد أبنائهم الإعداد الصحيح، ليس فقط للنجاح في الدراسة، ولكن أيضا لمواجهة الصدمات والتحديات التي لا مفر منها في هذه الحياة، وهذا التحدي يتطلب منهم إيجاد التوازن الدقيق بين تعزيز القيم وتقديم رؤية واقعية للعالم المليء بشتى أنواع القيم المغلوطة التي لا يمكن تجاوزها إلا بعد مرور عدة عقود.

فصديقي الذي أتي من خلفية ثقافية مختلفة عن ثقافتنا، وتربي في أسرة غربية محافظة، وكان الصدق والأمانة والضمير الحي الدعائم التي بنيت عليها قيم والديه، وغرسوا فيه هذه القيم ليحملها كمشعل ينير دربه في عالم مظلم في كثير من الأحيان، وجد الواقع لما كبر يختلف كثيرا عما تعلمه من أبويه، فالصدق لم يكن دائما سلاحه الأمثل في مواجهة الأذى والغدر والخيانة والتنمر من أصدقائه المقربين، والقيم التي تربى عليها لم تكن له خير معين في كثير من المواقف والأحيان، فتعلم بأن الحياة لا تتطلب أحيانا العيش بضمير نقي، والبقاء غالبا ما يتطلب القوة، والمرونة، والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، وهو الآن أمام مهمة صعبة: كيف يعلم ابنه هذا التوازن بين القيم النبيلة، والحاجة إلى الصلابة في مواجهة هذا العالم الذي لا يعرف المثل العليا، ولا النقاء والصفا، في خضم هذه المعمعة؟

ففي قصص المثل والمبادئ والسعادة التي نراها في المسلسلات والأفلام، يبدو العالم مكانا مثاليا للحياة، ولكن في الواقع يحمل بين طياته الكثير من الظلم والظلام، ومزيج من الفرح والحزن، والنجاح والفشل، والعدل والظلم، والنور والظلام، والوفاء والخيانة، والسعادة والشقاء، والأهم من ذلك كله، قدرتنا كآباء على الاستمرار والتعلم من كل تجاربنا التي مررنا بها، فكيف يقوم صديقي الآن بتعليم ابنه الصغير بهذه الحقائق القاسية دون أن يخسر براءته وإيمانه بالخير الموجود في نفوس الكثير من الناس؟

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. التوازن طيب والإعتدال واجب ، تربية الأبناء على القيم العالية والعادات الحميدة مطلب وتحذيرهم من مواطن الفتن مطلب أيضاً دون الوصول الى مرحلة التجييش لمواجهة أي مشكلة فلربما يرتكبون جريمة تندم عليها في وقت لا ينفع فيه الندم .
    تحياتي لك ياصديقي .

    1. الأستاذ الفاضل عبدالله المالكي:

      أود أولاً أن أعرب عن امتناني العميق لكم لقراءة مقالي وتخصيص الوقت لكتابة ردكم القيم ، كما أشكركم على التأكيد على أهمية التوازن والاعتدال في تربية الأبناء، وهي قيم تحتاج إلى تسليط الضوء عليها بشكل مستمر في مجتمعاتنا اليوم.

      أتفق معكم تمامًا في أن تربية الأبناء على القيم العالية والعادات الحميدة هو مطلب أساسي في بناء شخصيات متوازنة وقادرة على التعامل مع تحديات الحياة بحكمة ومسؤولية ، وفي الوقت نفسه، فإن التحذير من مواطن الفتن وتوضيح الطرق الصحيحة لمواجهة التحديات دون التسرع أو التجييش هو جزء لا يتجزأ من هذه التربية ، و هذا ما يدعو له هذا المقال.

      إن التأكيد على ضرورة تجنب الوصول إلى مرحلة التجييش لمواجهة أي مشكلة هو نصيحة ثمينة، خصوصًا في عصرنا هذا الذي يمكن أن تتحول فيه العواقب غير المحسوبة إلى أخطاء جسيمة تؤدي إلى كوارث لا ينفع معها لا العوض و لا الندم، لقد أضفتم بحق نظرة عميقة تُبرز الحاجة إلى الوعي والتعقل في التعامل مع الصراعات والمشكلات.

      أشكركم مجددًا على تعليقكم البنّاء وعلى مشاركتكم القيمة التي تُعد إضافة ثرية للنقاش حول هذا الموضوع المهم ، وأتطلع دائمًا لتبادل المزيد من الأفكار والمناقشات المثمرة مع سعادتكم في المستقبل.

      محمد الفريدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى