اين ذهب الأصدقاء؟

محمد الفريدي
اين ذهب الأصدقاء؟
يقول بعد التقاعد أحد زملائي الذين كانوا يتشبثون بالكرسي، ويرون أنه ملك لهم، ولا يحق لأحد الاقتراب منه، ولو بالأحلام:
إن الحياة مليئة بالدروس والعبر، التي لا ندركها إلا عندما نعيشها بأنفسنا.
ورغم أنني قرأت كثيرا عن تقلب العلاقات البشرية، وسمعت عن قصص الجحود ونكران الجميل، إلا أنني لم أكن أتوقع يومًا أن أكون أنا بطلا لإحدى هذه القصص.
عندما تركت الكرسي، الذي كنت أشغله رغم أنفي، واجهت واقعا مختلفا تماما ، واقعا كشف لي حقيقة الكثير من الوجوه التي كانت تحيط بي
أتذكر جيدا تلك اللحظة التي عدت فيها إلى مكاني الأول بعد تقاعدي، شعرت حينها وكأنني عدت إلى نقطة الصفر، لكن لم أكن وحيدا ، كنت محاطا بوجوه كثيرة، لكنها وجوه قبيحة، أنكرت جميل صنعي، وتنكرت لمعروفي
ما حدث معي كان صادما، كنت أظن أن الصداقات التي بنيتها خلال سنوات عملي كانت قائمة على الحب والاحترام والمودة والتقدير، لكن سرعان ما اكتشفت أن بعضها لم يكن إلا قناعا يخفي وراءه أطنانا من المصالح فقط.
أتذكر شخصا كنت أظنه صديقا حقيقيا ، كان قريبا مني، ودائما ما أقوم بمساعدته، ولكنه، وبمجرد أن فقدت القدرة على نفعه، بدأ يبحث عن أسباب كثيرة ليكون خصمي، وإن لم يجد سببا ، اختلقه.
ثم هناك أولئك الذين كانوا يتهافتون على إقامة حفلات تكريم لي يوم توليت المنصب، وكنت أرفضها باستمرار، معتقدا أن العمل هو الأهم.
عندما تركت منصبي، لم يفكر أحد منهم بإقامة حفلة وداع لي، وكأنني لم أكن يوما جزءا من حياتهم
أتذكر تلك المكالمات الهاتفية التي كانت لا تتوقف يوميا، كان هاتفي يرن باستمرار، ليس فقط للسؤال عن صحتي، بل أيضا لطلب موعد لزيارتي في منزلي أو مكتبي، أو طلب شفاعتي في قضاء مسائل معينة
كان هذا الاهتمام يبدو صادقا وقتها، لكنه اختفى فجأة، وأصبح هاتفي صامتا ، لا يدق إلا للأمور الضرورية من الزوجة والأبناء، ولم يعد هناك سؤال عن الصحة، أو التعبير عن المحبة والشوق، أو طلب الزيارة أو الشفاعة
حتى بريدي كان يحمل لي درسا قاسيا ، كان ممتلئا دائما بالرسائل، بعضها مملوء بالرجاوات والطلبات، وبعضها يحمل كلمات الشكر والتقدير، وبعد أن تركت منصبي، أصبح بريدي شبه فارغ، لا يحتوي إلا على الرسائل العائلية، وفواتير الكهرباء والهاتف، وإشعارات البنك.
أما أيام الأعياد، التي كانت تموج بالزوار والمهنئين من الصباح حتى المساء، فقد تحولت إلى أيام عادية، أجلس فيها على مكتبي أقرأ وأكتب، أو أنتظر المعايدين في مجلسي، دون أن يطرق الباب أحد، أو يرن الهاتف ليقول لي: كل عام وأنت بخير.
لكن أصعب ما مررت به، وأكثر ما ترك أثرا في نفسي، هو ما رأيته من بعض من كنت أعدهم من طلبتي
كنت أظن أن العلاقة بين الأستاذ وطلابه أسمى وأقوى من أي علاقة أخرى، وأنها مبنية على العلم والاحترام المتبادل، لكنني فوجئت ببعض زملائي الذين تعلموا على يدي، وكنت أعتبرهم أبناء لي، يخرجون علي بكل وقاحة، ويقدحون في شخصي بالكذب والأباطيل.
هذه التجربة كانت بمثابة طعنة في قلبي، فلم أكن أتوقع أن يأتي الجحود من أولئك الذين بذلت كل ما أملك من أجل تعليمهم وإرشادهم وتوجيههم، شعرت حينها أن الثقة التي كنت أضعها في الناس بدأت تنهار، وأنني لم أعد أركن إليهم كما كنت من قبل.
بعد كل هذه التجارب المؤلمة، وجدت نفسي أعود إلى الكتاب.
نعم، الكتاب، هذا الصديق الذي لا يخون ولا يجحد.
وجدت فيه عزائي وراحتي، فهو يفتح لي أبواب العلم والمعرفة، ويمنحني الشعور بالسلام الذي افتقدته.
عدت إلى القراءة والكتابة، ووجدت أن الكتاب هو الصديق الذي لن يتركني مهما تغيرت الظروف، وفيه وجدت الأمان والثبات، بعيدا عن خيبات الأمل التي تتركها العلاقات مع البشر.
هذه التجربة لم تكن سهلة، لكنها كانت مليئة بالدروس العظيمة التي غيرت نظرتي للحياة.
أدركت أن العلاقات المبنية على المصالح زائلة، وأن الأشخاص الذين يلتفون حولك بسبب منصبك أو قدرتك على تقديم النفع لهم، سيختفون بمجرد أن تفتقد هذه القدرة.
تعلمت أن الصداقة الحقيقية نادرة، وأن الوفاء لا يظهر إلا في الأوقات الصعبة، كما أدركت أن الاعتماد الكامل على الآخرين للحصول على التقدير أو الاحترام، يؤدي إلى خيبات أمل كبيرة، لذا يجب أن نبني قوتنا الداخلية من مصادر مستقلة، مثل القراءة وتطوير الذات.
عندما تترك الكرسي، ستكتشف مثلي حقيقة الكثير من الأشخاص الذين كانوا يحيطون بك، ستعرف من كان معك لأنه يقدرك، ومن كان معك لأنه يحتاج لتخدمه فقط.
وفي النهاية، أقول لنفسي ولكل من يمر بتجربة مشابهة: لا بأس، فالحياة تعلمنا دائما أن نكون أقوى، وأن نبحث عن الوفاء في الأشياء التي لا تخذلنا، مثل الكتاب، والعمل، والإيمان بأن الخير لا يزال موجودا ، وإن بدا نادرا.
ما تعلمته من هذه التجربة هو أن العطاء لا يجب أن يتوقف، حتى لو كان العالم من حولك مليئا بالجحود، فالعطاء ليس مرتبطا بمن يستحقه أو لا يستحقه، بل هو انعكاس لقيمك ومبادئك.
فقد لا تجد تقديرا لما تقدمه، وقد لا يعود إليك الوفاء الذي تمنحه للآخرين، لكنك ستظل تشعر بالراحة لأنك كنت صادقا مع نفسك.
والعطاء الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من داخلك دون انتظار مقابل.
قد يبدو هذا الكلام الآن مثاليا ، أو حتى صعبا في ظل ما نراه من تقلبات البشر، لكنه السبيل الوحيد للحفاظ على إنسانيتك وسلامك الداخلي.
فعندما تركت الكرسي، أو بالأحرى تركني، أدركت أن القيم هي الشيء الوحيد الذي يجب أن يبقى.
المناصب تأتي وتذهب، والعلاقات تتغير، لكن ما يحدد مكانتك الحقيقية هو أخلاقك وثباتك على مبادئك، فلا يمكن لأي منصب أن يمنحك التقدير والاحترام إذا لم تكن هذه القيم جزءا من شخصيتك، وتذكر دائما أن الكرسي لا يصنعك، بل أنت من تصنع الكرسي، وقيمتك لا تأتي من المنصب، بل من نفسك، ومما تقدمه للآخرين بإخلاص.
ودائما، اجعل الصدق مع النفس صديقك، والمبادئ مرشدك، والإنسانية جوهرك، فالحياة تستمر، مهما تغيرت الظروف، ومهما خذلك الناس