كُتاب الرأي

النفاق معول يهدم الثقة

محمد الفريدي

النفاق معول يهدم الثقة

لا أحد ينكر أنه في مجتمعنا، هناك من يرفع شعارات براقة في النهار، ويقوم في الليل بأفعال تناقضها تماما.

ولا أحد ينكر كذلك أن هذا النفاق الاجتماعي بات ظاهرة معتادة، يتحول بها هؤلاء المتلونون أمامنا كل يوم إلى أدوات تخدم مصالح أشخاص لا يمنحونهم من موائدهم إلا فتات الفتات فقط ، وفي الوقت ذاته، تزداد ممارساتهم قوة وتضليلا وازدواجية، مما يعزز الخلل في منظومة القيم والمبادئ التي يقوم عليها مجتمعنا.

إن استمرار هذه الظاهرة في مجتمعنا يعكس أزمة أخلاقية عميقة، ويهدد قيمنا الأساسية التي طالما كنا نفتخر بها، فالمجتمع الذي يسمح لهذه الأدوار المزدوجة بالاستمرار هو مجتمع مهدد بالانهيار من الداخل، إذ لا يمكن للثقة والمصداقية أن تستمرا في بيئة تنخرها الخيانة والنفاق.

الكثير من هؤلاء يبيعون ضمائرهم مقابل مكاسب زائلة كالترقيات أو المكافآت أو الدروع والشهادات ، وفي مقابل ذلك، يستبيحون خصوصيتنا ويبيعون معلوماتنا، ويتصرفون لخدمة مصالحهم الشخصية، وأدوارهم المتناقضة تتيح لهم فرصة التحكم في عقائدنا وأفكارنا وحتى في تفاصيل حياتنا الصغيرة.

إن هؤلاء الذين يصفون أنفسهم علنا بمناهضي الظلم والفساد، وفي الخفاء يتحولون إلى أدوات للتجسس ورفع التقارير الكيدية التي لا تعكس سوى نواياهم السلبية، و يتسللون إلى حياتنا خلسة ويتحكمون بها من وراء ستار، وفي النهار، يتقمصون دور المدافعين عن المبادئ والقيم، ومع غروب الشمس ينكشف وجههم الحقيقي المليء بالأطماع والانتهازية، ويزرعون الشك في نسيج المجتمع، ويقوضون الثقة بين أفراده، ويصبحون معاول هدم تهدم ما تبقى من القيم التي يدّعون زيفا أنهم يحرسونها، ويتوهمون أن الظلام سيخفي أفعالهم إلى الأبد، وما علموا أن الحق لا ينام، والتاريخ لا يرحم ، عليهم أن يدركوا أنني لن أسكت عن مهازلهم أبدا.

هذه الأدوار المزدوجة التي يلعبها هؤلاء الأشخاص تهدد القيم الأساسية في المجتمع، ولا يقتصر ضررها على المحيطين بهم، بل تخلق مناخا من الخوف والشك والريبة، مما يجعل الثقة بين الناس تصبح أمرا صعبا للغاية، إضافة إلى ذلك، تعزز هذه الممارسات قوة الأشخاص المسيطرين عليهم، فتجعلهم أكثر تسلطا وقمعا، وبذلك، يصبح مجتمعنا مرهونا لأهواء المتسلطين، وتتحول مبادئنا وقيمنا إلى شعارات فارغة لا تعني شيئا أمام مصالحهم الشخصية والتلاعب بمصائرنا.

إن هذا التناقض بين المواقف العلنية والممارسات السرية يعكس أزمة أخلاقية عميقة في كثير من المجتمعات، فلا يمكن للكرامة والمبادئ أن تكون مجرد شعارات مؤقتة ترفع عند الحاجة وتنسى عند التحديات ، فالمواقف الأخلاقية الحقيقية تتطلب ثباتا على القيم مهما كان الثمن غاليا، والمجتمعات التي تفقد قيمها الأخلاقية تصبح مسرحا للفوضى والظلم، ويصبح الفرد فيها مجرد أداة في يد من يملكون السلطة، وتضيع العدالة وتتلاشى المساواة بين الناس، وهذا الانحدار الأخلاقي لا ينتج سوى مجتمع منهك يفتقر إلى روح التضامن والإنسانية، ويصبح فيه الحق ضعيفا وأصوات الأحرار مكبلة، ولا ننهض بدولتنا ولا نبني مستقبلها، لأن القيم هي العمود الفقري لأي حضارة، وبدونها تتحول القوة إلى استبداد، والسلطة إلى طغيان، وتغيب العدالة التي هي أساس أي تقدم، ويظل الفساد والظلم متفشيين، ويصبح ضحايانا وحدهم هم من يدفعون الثمن.

إن من يبيع مبادئه وأخلاقه مقابل مكاسب مادية أو مكانة مؤقتة لن يترك خلفه سوى صورة مليئة بالخيانة والنفاق، والمجتمع الذي يسمح باستمرار هذه الظاهرة عليه أن يعيد النظر في قيمه وأولوياته، لأن مستقبله لا يبنى على أكتاف هؤلاء الخونة والمنافقين، بل على أيدي المخلصين الصادقين الذين يثبتون على مواقفهم في جميع الأوقات، والأوطان لا تزدهر إلا بقوة الحق وصدق المبادئ، ولا يرتفع بنيانها إلا بسواعد الشرفاء الذين يضعون المصالح العامة ومصالحها فوق الاعتبارات الشخصية والمكاسب الزائلة.

لم يعد السكوت على هذه الفئة مقبولا في مجتمع يسعى لتحقيق النهضة الحقيقية، والتغيير يبدأ بكشف هذه الممارسات وفضح من يلعبون هذه الأدوار المشبوهة، ولابد أن يكون هناك محاسبة صارمة لكل من يستغل موقعه أو دوره الاجتماعي أو الوظيفي للإضرار بالآخرين، والمحاسبة العادلة وحدها كفيلة بإعادة التوازن للمجتمع، وضمان ألا يعلو صوت الخيانة فوق صوت الحق والعدالة.

وعلى كل فرد في المجتمع أن يتحمل مسؤوليته في كشف هؤلاء والانتباه لتحركاتهم، فالسكوت عنهم يعني منحهم مزيدا من الفرص لممارسة أدوارهم التخريبية مرارا وتكرارا.

ولتعزيز ثقافة الوعي بين الشباب والشابات، يجب تشجيعهم على التفكير الحر والعمل على حمايتهم من الوقوع تحت تأثير هذه الفئة، وتمكينهم من حماية معتقداتهم واختياراتهم بأنفسهم من محاولات السيطرة والوصاية غير المشروعة عليهم، فتكاتف المجتمع ويقظته الفكرية يشكلان حجر الأساس لبناء مجتمع واع وقوي، قادر على التصدي لهذه الفئة وإفشال محاولاتها المستمرة في تقويض القيم والمبادئ التي تصون كرامة الأفراد واستقلالهم، فرغم الظلام الذي تخلفه هذه الممارسات الخطيرة وما خلفته في الماضي، إلا أن الأمل يبقى معقودا على أولئك الذين يثبتون على مبادئهم مهما كانت الظروف قاسية، فهؤلاء الصادقون هم شعلة النور التي تقود المجتمع نحو العدالة والمساواة والحرية والكرامة، وهم الركيزة التي تعيد الأمل في غد أفضل، والمجتمع لا ينهض إلا بجهود المخلصين، الذين يزرعون الأمل بأفعالهم النبيلة ويواجهون الظلم بثباتهم، ليكونوا النواة الصلبة التي تبني أجيالا قادرة على صيانة القيم والدفاع عن البلاد والحق والحقوق والحقيقة.

هؤلاء فقط هم القادة الحقيقيون الذين يسيرون بالوطن نحو مستقبل مشرق لا مكان فيه للفساد والانتهازية.

وإلى أولئك الذين استبدلوا شرف الكلمة وصدق النضال برضا الأشخاص وفتات موائدهم، تذكروا أن التاريخ لا يرحم، وأن الخيانة، مهما كان غطاؤها، لا تنسى، فالكرامة أهم من أي منحة أو امتيازات تبحثون عنها، والثقة التي تخونون لا تسترد بسهولة، وبناء مجتمع نقي قائم على الثقة والنزاهة يتطلب تطهير الأجواء منكم ومن هذه الفئة المتطفلة، والأوطان العظيمة لا تحتمل وجود الخائنين في صفوفها، ولا يخلد فيها إلا من يحمل راية الحق بيد وراية الشرف باليد الأخرى، والبقاء الحقيقي لمن يدافع عن قيمها لا لمن يبيعها في اليوم مئة مرة.

وتقدمنا الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا عندما تكون القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية هي الأساس الذي تبنى عليه العلاقات بين الأفراد والمجتمع، ولا يزدهر مجتمع يقوده المخلصون فحسب، بل يجب أن يختفي منه أيضا من يتلونون بين الليل والنهار من أمثالكم، لتظل راية الحق والكرامة هي التي ترفع دائما، وما سواها يختفي من حياتنا تماما.

ولقد أثبت التاريخ مرارا أن الخونة والمنافقين، مهما طال بهم الزمن في لعب أدوارهم المزدوجة، ينكشفون في النهاية، وقدرتهم على التلون لن تحميهم حين تحين لحظة الحقيقة، وعندما تتبدل المصالح التي كانوا يبيعون أنفسهم من أجلها، والأشخاص الذين يعيشون على فتات موائدهم لن يترددوا في التخلص منهم عند أول منعطف، فهم بالنسبة لهم مجرد أدوات مؤقتة لا أقل ولا أكثر.

وعلى الشباب، الذين غالبا ما يكونون الهدف الأول لهذه الفئة، أن يتحلوا بالوعي والنضج في التعامل مع أي محاولات للتأثير على أفكارهم أو التحكم في حياتهم، وأن يدركوا أن القيم الحقيقية لا تمنح من قوى خارجية، بل هي حالة داخلية تتطلب وعيا وإصرارا على التمسك بالمبادئ والقيم.

وفي المقابل، تحتاج مؤسساتنا التعليمية والمجتمعية إلى إصلاح شامل لضمان حماية الشباب من هذه الممارسات، وتعزيز قيم العدالة والحرية الفكرية، وتشجيع النقاش المفتوح، ومنع أي تدخل خارجي من أي شخص في حياتهم لأن شبابنا عماد مستقبلنا، وحين نمنحهم أدوات الوعي والاستقلال، نؤسس جيلا قويا قادرا على بناء وطن لا مكان فيه للظلم والوصاية والتبعية.

والإعلام الحر والمستقل يجب أن يلعب دورا حاسما في تسليط الضوء على هذه الظاهرة ويفضح ممارساتها، فالصحافة ليست مجرد ناقل للأخبار فقط، بل هي مرآة تعكس حقيقة المجتمع وصوت للمظلومين والمقموعين، وعلينا كمجتمع أن نتكاتف لحماية الحقوق الفردية وصيانة حرية الفكر والمعتقد.

فلا مستقبل لأولئك الذين يخونون أنفسهم ومجتمعاتهم مقابل مكاسب زائلة، فهم وإن ظنوا أنهم رابحون الآن، إلا أنهم سيدفعون ثمن أفعالهم عاجلا أو آجلا، ليس فقط أمام المجتمع بل أمام أنفسهم أيضا، وفي نهاية الطريق، سيكتشفون أنهم خسروا كل شيء، بينما يبقى أصحاب المبادئ والقيم الحقيقية هم من يحملون راية النصر وراية الوطن عالية خفاقة.

فليكن التغيير للأفضل مسؤوليتنا جميعا، ولنقف ضد جميع أشكال النفاق والخيانة، ولنبن مجتمعا قائما على الصدق والعدالة والكرامة، لأن الأوطان لا تبنى إلا بسواعد الشرفاء، ولا تزدهر إلا بالوفاء لها ولقيمها النبيلة.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى