الأخبار
أثير الغياب
الساعة الثانية عشر منتصف الليل، بتوقيت قلب مهجور يكسوه الغبار بعدما أصابه وباء الفقد.
أغلقت بوابة اللقاء، و أصبح الكون الكبير جدًا عالمًا صغيرًا للغاية. داخل أعمق زاوية في القلب، تتسلل معزوفة موسيقية صامتة. أتساءل، من أخبر الأرض أنني اختبارها الوحيد حتى تصفعني بآلامها؟ تُشعرني أن كل جوارحي معطلة، وأن الوقت لم يكن منصفًا حين حرمني اللقاء أو فرصة العناق الأخير.
كل ما أتمناه هو أن أركل الكرة الأرضية التي تدور وتدور، ولا تأتي به، ذلك الذي إن رآك فرد ذراعيه، لكن بعد رحيله، يصبح كل شيء في الأرض لا يعوضك تلك اللمسة، تلك اللحظة، لمسة الأذرع. تشعر أن كل الأذرع الممتدة إليك من بعده، تصبح كجذوع شجر خاوية، حيث تبدو الوجوه بلا ملامح.
نجيء بذكراهم، فتثمر الروح بهم. نطلق العنان لخيالنا، نقلب في جدران الممرات، واحدًا تلو الآخر. نحدث الطرقات عنهم، قنينة بلون الفقد نسكبها على الدروب. ليتهم يأتون مع الريح بلا أقدام، ليتساقط الفقد كحبات الرمان.
دائمًا ما كان ينتابني شعور الفضول: لمن يلجأ الفاقد ليفسخ طيف المفقود من نوتات الروح؟ إنها لعنة خرساء على متن قلب، تعزفنا بين أوتار الأدب والنثر. ما أخوف الفقد وما أقسى عذباته.
كان القدماء المصريون يملكون خمسين كلمة عن الرمال، بينما يمتلك الإسكيمو مئة كلمة عن الثلج. أتمنى أن أملك ألف كلمة عن ألم الفقد، ولكن لا أريد أن أستخدم الكثير من الكلمات المعقدة لكي أخبركم عن ذلك. ربما لا حاجة للتعبير بالكلام عن هذا الألم. يكفي أن تنظر لطفل خرج لتوّه من أحشاء أمه، فاقدًا دفء جسدها وحنان روحها. رغم أنه لم يعرفها وجهًا، إلا أنه عرفها بروحها ومشاعرها، فيغلبه البكاء، وهذا أول شعور يشعر به في الحياة. فمن يفقد ما يحب، يبكي عليه.
أصعب صبر في الحياة هو الصبر على نوائب الفقد.
ليس كل ما يبدو فقدًا هو فقد، هناك عوضٌ لابد منه. رغم أنه فقد وطنه ومأواه، إلا أنه خرج من الظلمات إلى النور، من ضيق الأرحام إلى رحابة الكون، من البحر الذي كان يسبح فيه إلى الهواء الطلق، إلى دفء النور، إلى الشمس. من باب أولى به أن يبتسم ويبدي علامات الرضا بدلاً من الصراخ والبكاء.
بكاؤه من الناحية البيولوجية مفيد، إذ يسمح للهواء بالدخول إلى رئتيه، ويساعد في انقباض وانبساط عضلة القلب. إلا أن بعض الأطفال لا يبكون، فيخشى عليهم من الاختناق لعدم التنفس، فتقوم القابلة بإيلامهم بإبرة لكي يبكوا ويأخذوا الهواء.
كل شيء خلق بقدر، وأقدار الله فوق كل شيء.
لنراجع قصة النبي سليمان عليه السلام مع ملك الموت التي حصلت قبل الميلاد، لنتفهم أن أقدار الله فوق إمكانيات فهم المخلوقات. يُحكى أن نبي الله سليمان كان صديقًا لملك الموت، وكان ملك الموت يزور نبي الله سليمان بين الحين والآخر، فيتخذ شكل إنسان كي لا يرتعب الناس. في إحدى الزيارات، لاحظ سليمان أن ملك الموت كان يطيل النظر في وجه أحد الرجال الجالسين في المجلس بطريقة لفتت أنظار الجميع.
فقال الرجل: “من هذا الذي يطيل النظر إلي؟”
أجاب سليمان: “هذا ملك الموت.”
ثم تساءل الرجل: “ولماذا ينظر إلي هكذا؟”
أجاب سليمان: “لا أعلم.”
ثم طلب الرجل من سليمان: “أسألك بالله أن تأمر الريح أن تحملني إلى الهند، فإنني لا أطيق الجلوس في هذا المكان حيث ينظر إلي ملك الموت بهذه الطريقة!”
قال سليمان: “وما يفيدك إذا أمرت الريح أن تحملك إلى الهند؟ الأعمار بيد الله، لا تطول ثانية ولا تقصر.”
أصر الرجل: “لكنني لن أستطيع البقاء هنا، أسألك بالله أن تأمر الريح أن تحملني إلى الهند!”
فأمر سليمان الريح أن تحمل الرجل إلى الهند. ثم عاد ملك الموت، ودخل على سليمان، فقال له: “لماذا كنت تنظر إلى هذا الرجل بهذه الطريقة؟”
فقال ملك الموت: “إن الله أمرني أن أقبض روح هذا الرجل في الهند، وعندما رأيته في مجلسك، تساءلت في نفسي: كيف سيصل هذا الرجل إلى الهند وهو لم يتبقَ من عمره سوى لحظات؟ لكن علم الله لا يخطئ، فلما وصل إلى الهند، وجدته ينتظرني هناك.”
هناك قصة أخرى بين موسى والخضر، حيث سأله موسى عن كيفية عمل القدر.
طلب الله من موسى أن يلاقي الخضر عليه السلام، هذا القدر المتكلم الذي وصفه الله بأنه: “آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا”. كان القدر رحيمًا عليمًا.
ثم يحاور موسى الخضر: “قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟”، فيرد عليه الخضر: “إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا؟”
لأن فهم أقدار الله يفوق قدرات العقل البشري، ولن يصبر الإنسان على التناقضات التي تحدث.
فيرد موسى عليه السلام بكل فضول البشر: “قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا.”
يبدأ موسى في تلقي مجريات القدر، ويعاتب الخضر كما نفعل نحن، لكن بعد أن شرح له ولنا جميعًا كيف يعمل القدر، نكتشف ببساطة أن الشر شيء نسبي ومفهومه قاصر، لأننا لا نرى الصورة كاملة.
فما كان يبدو شرًا لموسى وأصحاب المركب وأهل المقتول، كان في حقيقته لطف الله الخفي، الذي يصرف الشر عنا دون أن ندركه. هو الخير الذي يسوقه لنا القدر، مثل بناء الجدار لأيتام الرجل الصالح.
إذن، لن نتمكن نحن بني آدم من فهم أقدار الله كما هي، لأن بها خيرًا لا ندركه في حينه.
من يتجه شرقا ونحن غربًا، هذا لا يعني بالضرورة أننا لن نلتقي أبدًا، بل ربما سنلتقي في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية. تلك هي فائدة كروية الأرض، أننا سنلتقي في النهاية.
لكن ماذا عن الذين رحلوا إلى أرحم الراحمين؟ لا شك أن حياة أخرى ستجمعنا، ولا شك أن القدر سيلملم بقايا حياتنا.
سأبحث عنك في حياة أخرى.
سأتخطى الأحداث وأخبرك برسالتي التي خطتها يد القدر على بوابة الحياة الأخرى من القبر. من القبر، أحدثكم يا من عزيتم على فراقهم بالقدر ذاته. حبات التراب الكثيفة تخفي وجودي، نور الشمس ولمعان القمر والنجوم غابت عني. أبعث لكم كلمات كنت أندم على عدم صياغتها في حياتي. لم تكن هناك معجزة لتعيدني إليكم، فقد خبأت مشاعري دوماً، وسكنت روحي الجافة وأنا بين ذراعكم.
لقد أخبرتني الملائكة بعد رحيل من دفنوني أن لي فرصة الكتابة للأحياء.
كل ما أريد قوله هنا أن القبر أكثر ظلمة مما كنا نتصور. إنها ظلمة لا تشبه تلك التي كنا نلجأ إليها في حياتنا الدنيا. درجة حرارة وبرودة غريبتان، وقد أدركت كل شيء في اللحظة الأخيرة من احتضاري: أن الحياة خدعة في ملهياتها وتفاصيل الناس. متُّ في حياتكم مئات المرات، وما عاد لي أن أنكر هذا بعد أن أمتني موت الفانية، الموت الأخير، القاضي الحق الذي لا مفر منه.
رأيتكم تضعون التراب على قبري، وكان منكم من يطلب سماحي، كنت أشعر بكم، تمنيت لو أنني أستطيع أن أزرع من جديد، أكون زهرة من زهور الحب التي تهدى بينكم. فقد تجسدت في التراب وتناهشت ملامحي، وكأنني جزء من الأرض التي سكنت، ولكنني لن أعود إليها.
أعرف أنني حينما مت، أصبحت البقايا مخيفة، وأجزاء قلمي رعب. فحينما أكون جثة، كالآن، غادروني بسلام واتركوا صفاتي، أيجرؤ بعد الموت حديث؟ أنني الآن، وأنا أشاهد تلك الحياة التافهة تذروها الرياح، أرى كيف يتلاشى وجودي بدون أثر يُذكر.
سأمنحكم نصيحة صادقة وقد غدوت ذا خبرة:
الحياة كذبة، لكن وحدنا من نستطيع تحويلها إلى لحظات صادقة من القلب.
أيها الصادقون، خذوا مني هذه النصيحة: الرحيل لا يرحم أحدًا ولا يميز بين أحد. ارفقوا بمن تحبون وكونوا معهم، لا تدعوا شيء يسرقهم منكم أو يبعدكم عنهم. كونوا لهم في هذه الحياة وبعد الحياة ذخرا.
مهلاً!
إنني نسيت أن أحدثكم عما رأيت!
رأيت جدي وبجانبه جدتي، رأيت الكثير من الأقارب والأحبة. حمداً لله، فالجميع كانوا في قمة السعادة.
بالمناسبة، لقد سألوني عن أحوالكم، فأخبرتهم عنكم كثيرًا. أخبرت ذلك الحبيب كيف أن حبيبته الحزينة هجرت الحب ودفنته معها في جوفها بعد أن مات وأمات الحب من بعده. ذلك الولد الذي أفنت أمه عمرها في تخيله أمامها، وكيف أنها كلما ارتسم طيفه أمامها، هوت مغمياً عليها. وتلك الطفلة التي لم يكتمل ربيعها الثالث بعد، عندما غربت عنها شمسها بلا شروق، أفلت عنها قمرها بلا عودة، وتجردت من كل أشيائها التي لم تمتلكها بعد.
أخبرتهم عن الأوطان والبلدان، المذنبين والتائبين، حدثتهم عن كل شيء.
كل شيء؛ فقد تبادلنا أطراف أعمالنا، متمنين أن نعمل مزيدًا من الخيرات لننال مزيدًا من رحمات ربي وغفرانه علينا.
لكم نصائحي، التي لو ذكرتها لسردت مئات النصوص. لكن بعد أن حانت ساعة توديعي لهم، سريعًا حزمت كل أعمالي وذهبت إلى قبري، أتلو فيه تراتيل الألفة والمحبة التي ترسلونها لي.
غفوت في قبري أخيرًا، بعد أن استقرت نفسي، وتودعت من على الحياة والقبور، من ذويَّ وأهلي.
ارتديك معطفًا يقيك برد الفقد.
إن لله وإنا إليه راجعون.
أغلقت بوابة اللقاء، و أصبح الكون الكبير جدًا عالمًا صغيرًا للغاية. داخل أعمق زاوية في القلب، تتسلل معزوفة موسيقية صامتة. أتساءل، من أخبر الأرض أنني اختبارها الوحيد حتى تصفعني بآلامها؟ تُشعرني أن كل جوارحي معطلة، وأن الوقت لم يكن منصفًا حين حرمني اللقاء أو فرصة العناق الأخير.
كل ما أتمناه هو أن أركل الكرة الأرضية التي تدور وتدور، ولا تأتي به، ذلك الذي إن رآك فرد ذراعيه، لكن بعد رحيله، يصبح كل شيء في الأرض لا يعوضك تلك اللمسة، تلك اللحظة، لمسة الأذرع. تشعر أن كل الأذرع الممتدة إليك من بعده، تصبح كجذوع شجر خاوية، حيث تبدو الوجوه بلا ملامح.
نجيء بذكراهم، فتثمر الروح بهم. نطلق العنان لخيالنا، نقلب في جدران الممرات، واحدًا تلو الآخر. نحدث الطرقات عنهم، قنينة بلون الفقد نسكبها على الدروب. ليتهم يأتون مع الريح بلا أقدام، ليتساقط الفقد كحبات الرمان.
دائمًا ما كان ينتابني شعور الفضول: لمن يلجأ الفاقد ليفسخ طيف المفقود من نوتات الروح؟ إنها لعنة خرساء على متن قلب، تعزفنا بين أوتار الأدب والنثر. ما أخوف الفقد وما أقسى عذباته.
كان القدماء المصريون يملكون خمسين كلمة عن الرمال، بينما يمتلك الإسكيمو مئة كلمة عن الثلج. أتمنى أن أملك ألف كلمة عن ألم الفقد، ولكن لا أريد أن أستخدم الكثير من الكلمات المعقدة لكي أخبركم عن ذلك. ربما لا حاجة للتعبير بالكلام عن هذا الألم. يكفي أن تنظر لطفل خرج لتوّه من أحشاء أمه، فاقدًا دفء جسدها وحنان روحها. رغم أنه لم يعرفها وجهًا، إلا أنه عرفها بروحها ومشاعرها، فيغلبه البكاء، وهذا أول شعور يشعر به في الحياة. فمن يفقد ما يحب، يبكي عليه.
أصعب صبر في الحياة هو الصبر على نوائب الفقد.
ليس كل ما يبدو فقدًا هو فقد، هناك عوضٌ لابد منه. رغم أنه فقد وطنه ومأواه، إلا أنه خرج من الظلمات إلى النور، من ضيق الأرحام إلى رحابة الكون، من البحر الذي كان يسبح فيه إلى الهواء الطلق، إلى دفء النور، إلى الشمس. من باب أولى به أن يبتسم ويبدي علامات الرضا بدلاً من الصراخ والبكاء.
بكاؤه من الناحية البيولوجية مفيد، إذ يسمح للهواء بالدخول إلى رئتيه، ويساعد في انقباض وانبساط عضلة القلب. إلا أن بعض الأطفال لا يبكون، فيخشى عليهم من الاختناق لعدم التنفس، فتقوم القابلة بإيلامهم بإبرة لكي يبكوا ويأخذوا الهواء.
كل شيء خلق بقدر، وأقدار الله فوق كل شيء.
لنراجع قصة النبي سليمان عليه السلام مع ملك الموت التي حصلت قبل الميلاد، لنتفهم أن أقدار الله فوق إمكانيات فهم المخلوقات. يُحكى أن نبي الله سليمان كان صديقًا لملك الموت، وكان ملك الموت يزور نبي الله سليمان بين الحين والآخر، فيتخذ شكل إنسان كي لا يرتعب الناس. في إحدى الزيارات، لاحظ سليمان أن ملك الموت كان يطيل النظر في وجه أحد الرجال الجالسين في المجلس بطريقة لفتت أنظار الجميع.
فقال الرجل: “من هذا الذي يطيل النظر إلي؟”
أجاب سليمان: “هذا ملك الموت.”
ثم تساءل الرجل: “ولماذا ينظر إلي هكذا؟”
أجاب سليمان: “لا أعلم.”
ثم طلب الرجل من سليمان: “أسألك بالله أن تأمر الريح أن تحملني إلى الهند، فإنني لا أطيق الجلوس في هذا المكان حيث ينظر إلي ملك الموت بهذه الطريقة!”
قال سليمان: “وما يفيدك إذا أمرت الريح أن تحملك إلى الهند؟ الأعمار بيد الله، لا تطول ثانية ولا تقصر.”
أصر الرجل: “لكنني لن أستطيع البقاء هنا، أسألك بالله أن تأمر الريح أن تحملني إلى الهند!”
فأمر سليمان الريح أن تحمل الرجل إلى الهند. ثم عاد ملك الموت، ودخل على سليمان، فقال له: “لماذا كنت تنظر إلى هذا الرجل بهذه الطريقة؟”
فقال ملك الموت: “إن الله أمرني أن أقبض روح هذا الرجل في الهند، وعندما رأيته في مجلسك، تساءلت في نفسي: كيف سيصل هذا الرجل إلى الهند وهو لم يتبقَ من عمره سوى لحظات؟ لكن علم الله لا يخطئ، فلما وصل إلى الهند، وجدته ينتظرني هناك.”
هناك قصة أخرى بين موسى والخضر، حيث سأله موسى عن كيفية عمل القدر.
طلب الله من موسى أن يلاقي الخضر عليه السلام، هذا القدر المتكلم الذي وصفه الله بأنه: “آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا”. كان القدر رحيمًا عليمًا.
ثم يحاور موسى الخضر: “قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟”، فيرد عليه الخضر: “إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا؟”
لأن فهم أقدار الله يفوق قدرات العقل البشري، ولن يصبر الإنسان على التناقضات التي تحدث.
فيرد موسى عليه السلام بكل فضول البشر: “قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا.”
يبدأ موسى في تلقي مجريات القدر، ويعاتب الخضر كما نفعل نحن، لكن بعد أن شرح له ولنا جميعًا كيف يعمل القدر، نكتشف ببساطة أن الشر شيء نسبي ومفهومه قاصر، لأننا لا نرى الصورة كاملة.
فما كان يبدو شرًا لموسى وأصحاب المركب وأهل المقتول، كان في حقيقته لطف الله الخفي، الذي يصرف الشر عنا دون أن ندركه. هو الخير الذي يسوقه لنا القدر، مثل بناء الجدار لأيتام الرجل الصالح.
إذن، لن نتمكن نحن بني آدم من فهم أقدار الله كما هي، لأن بها خيرًا لا ندركه في حينه.
من يتجه شرقا ونحن غربًا، هذا لا يعني بالضرورة أننا لن نلتقي أبدًا، بل ربما سنلتقي في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية. تلك هي فائدة كروية الأرض، أننا سنلتقي في النهاية.
لكن ماذا عن الذين رحلوا إلى أرحم الراحمين؟ لا شك أن حياة أخرى ستجمعنا، ولا شك أن القدر سيلملم بقايا حياتنا.
سأبحث عنك في حياة أخرى.
سأتخطى الأحداث وأخبرك برسالتي التي خطتها يد القدر على بوابة الحياة الأخرى من القبر. من القبر، أحدثكم يا من عزيتم على فراقهم بالقدر ذاته. حبات التراب الكثيفة تخفي وجودي، نور الشمس ولمعان القمر والنجوم غابت عني. أبعث لكم كلمات كنت أندم على عدم صياغتها في حياتي. لم تكن هناك معجزة لتعيدني إليكم، فقد خبأت مشاعري دوماً، وسكنت روحي الجافة وأنا بين ذراعكم.
لقد أخبرتني الملائكة بعد رحيل من دفنوني أن لي فرصة الكتابة للأحياء.
كل ما أريد قوله هنا أن القبر أكثر ظلمة مما كنا نتصور. إنها ظلمة لا تشبه تلك التي كنا نلجأ إليها في حياتنا الدنيا. درجة حرارة وبرودة غريبتان، وقد أدركت كل شيء في اللحظة الأخيرة من احتضاري: أن الحياة خدعة في ملهياتها وتفاصيل الناس. متُّ في حياتكم مئات المرات، وما عاد لي أن أنكر هذا بعد أن أمتني موت الفانية، الموت الأخير، القاضي الحق الذي لا مفر منه.
رأيتكم تضعون التراب على قبري، وكان منكم من يطلب سماحي، كنت أشعر بكم، تمنيت لو أنني أستطيع أن أزرع من جديد، أكون زهرة من زهور الحب التي تهدى بينكم. فقد تجسدت في التراب وتناهشت ملامحي، وكأنني جزء من الأرض التي سكنت، ولكنني لن أعود إليها.
أعرف أنني حينما مت، أصبحت البقايا مخيفة، وأجزاء قلمي رعب. فحينما أكون جثة، كالآن، غادروني بسلام واتركوا صفاتي، أيجرؤ بعد الموت حديث؟ أنني الآن، وأنا أشاهد تلك الحياة التافهة تذروها الرياح، أرى كيف يتلاشى وجودي بدون أثر يُذكر.
سأمنحكم نصيحة صادقة وقد غدوت ذا خبرة:
الحياة كذبة، لكن وحدنا من نستطيع تحويلها إلى لحظات صادقة من القلب.
أيها الصادقون، خذوا مني هذه النصيحة: الرحيل لا يرحم أحدًا ولا يميز بين أحد. ارفقوا بمن تحبون وكونوا معهم، لا تدعوا شيء يسرقهم منكم أو يبعدكم عنهم. كونوا لهم في هذه الحياة وبعد الحياة ذخرا.
مهلاً!
إنني نسيت أن أحدثكم عما رأيت!
رأيت جدي وبجانبه جدتي، رأيت الكثير من الأقارب والأحبة. حمداً لله، فالجميع كانوا في قمة السعادة.
بالمناسبة، لقد سألوني عن أحوالكم، فأخبرتهم عنكم كثيرًا. أخبرت ذلك الحبيب كيف أن حبيبته الحزينة هجرت الحب ودفنته معها في جوفها بعد أن مات وأمات الحب من بعده. ذلك الولد الذي أفنت أمه عمرها في تخيله أمامها، وكيف أنها كلما ارتسم طيفه أمامها، هوت مغمياً عليها. وتلك الطفلة التي لم يكتمل ربيعها الثالث بعد، عندما غربت عنها شمسها بلا شروق، أفلت عنها قمرها بلا عودة، وتجردت من كل أشيائها التي لم تمتلكها بعد.
أخبرتهم عن الأوطان والبلدان، المذنبين والتائبين، حدثتهم عن كل شيء.
كل شيء؛ فقد تبادلنا أطراف أعمالنا، متمنين أن نعمل مزيدًا من الخيرات لننال مزيدًا من رحمات ربي وغفرانه علينا.
لكم نصائحي، التي لو ذكرتها لسردت مئات النصوص. لكن بعد أن حانت ساعة توديعي لهم، سريعًا حزمت كل أعمالي وذهبت إلى قبري، أتلو فيه تراتيل الألفة والمحبة التي ترسلونها لي.
غفوت في قبري أخيرًا، بعد أن استقرت نفسي، وتودعت من على الحياة والقبور، من ذويَّ وأهلي.
ارتديك معطفًا يقيك برد الفقد.
إن لله وإنا إليه راجعون.