كُتاب الرأي

بين الأكواب و الطاولات يبرز الإبداع

محمد الفريدي

بين الأكواب و الطاولات يبرز الإبداع

لي صديق اديب وشاعر في مثل سني دائما ما يخشى الذهاب إلى المقاهي الحديثة، ويعتقد أنها مليئة بالأشخاص الذين يطلقون الأحكام جزافا على الآخرين أو يبحثون عن علاقات مع نساء.

 كان يخاف بصراحة من أن يُطلق عليه “دادي شوقر” إن دخل في تلك المقاهي أو يتعرض الى الانتقادات السلبية، لكننا، نحن أصدقاؤه، قررنا أخيرا أن نأخذه إلى أحد المقاهي الحديثة ليرى بعينه الحقيقة كما هي.

وعندما وصلنا، شعر بالدهشة، فقد كان المكان كبيرا وهادئا ومريحا ، والجميع منشغلون في اعمالهم أو في أحاديث هادئة مع أصدقائهم أو في قراءة كتب كانت بأيديهم.

لم يكن هناك أي نوع من التصرفات التي كان يخشى منها، ومع مرور الوقت، بدأ يلاحظ أن المقاهي الحديثة ليست كما كان يتصورها، بل وجد أنها اماكن للتواصل الحقيقي والراحة النفسية بعيدا عن ضغوط الحياة اليومية التي يعاني منها الجميع.

كانت مقاهينا القديمة مِسَاحَة عامة ذات أهمية ثقافية واجتماعية، يتجمع فيها الناس للجلوس والتأمل وتبادل الخبرات والمعلومات والتجارب والأفكار ، و لم تكن مجرد ترفيه بلا معنى ، بل كانت أسلوب حياة يؤثر في الأدب والفكر والشعر تأثيرا مباشر ، كماهو الحال مع أديبنا الكبير نجيب محفوظ الذي كان يستلهم من المقاهي الشعبية شخصيات رواياته.

كان نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، معروف بعادة ارتياده للمقاهي الشعبية في القاهرة، فتلك الأماكن لم تكن بالنسبة له مجرد موقع للاستراحة،بل كانت مختبره الإبداعي الذي يرصد من خلالها نبض الحياة المصرية الجميلة .

على طاولة بعيدة في ركن مقهى “الفيشاوي” أو “ريش”، يستعرض الحياة من حوله،ويستمتع بفنجان قهوته ويراقب المارة والأحاديث التي تدور بين الزبائن ويكتب فيمدونته جميع ملاحظاته.

في ذلك الجو المفعم بالحركة والصخب، كان يجد الإلهام الذي يصوغ منه رواياته الخالدة مثل “الثلاثية” و”زقاق المدق”.

بالنسبة له، كان المقهى مِسَاحَة للتأمل والتقاط تفاصيل الحياة العادية، ويحولها بموهبته إلى أعمال أدبية استثنائية ، تعكس علاقته اليومية بالمقهى مدى تأثير البيئة المحيطة على العملية الإبداعية.

و مع تحولاتنا الاجتماعية والتكنولوجية في المملكة ، تغير دور المقاهي من مِسَاحَة للتواصل وتبادل الأفكار إلى بيئة مختلفة تماما، تفتقد أحيانا لروح النقاش والعلاقات الإنسانية الحقيقية.
فغالبا ما تهيمن التكنولوجيا على المشهد في المقاهي الحديثة، و ينشغل روادها بهواتفهم بدلا من التفاعل مع من حولهم.

وطاولاتها التي كانت يوما ما شاهدة على حوارات عميقة وأفكار ملهمة أصبحت الآن مجرد أماكن للجلوس والانغماس في العالم الرقمي.

ومع أن مقاهينا الحديثة توفر أجواء مريحة وهادئة على عكس مقاهينا الشعبية القديمة ، إلا أنها فقدت جزءا كبيرا من دورها الثقافي والاجتماعي الذي كانت تقوم به سابقا ، والسؤال المطروح: هل لا يزال رواد المقاهي اليوم يجدون فيها مصدرا للإلهام والتأمل كما كان نجيب محفوظ الذي أصبح معروفا في الوطن العربي و روائيا عالميا مبدعا من مقاهينا الشعبية ؟

لا شك أن المقاهي ما زالت قادرة على إلهام البعض، خاصة لمن يستغل وقته فيها بالاعمال الادبية أو القراءة او التأمل، إذ لا يجد بعض الكتّاب والفنانين الإلهام  إلا في أصوات المارة وحركة الحياة من حولهم.

وفي المقابل، هناك من يرتاد المقاهي كجزء من نمط الحياة العصرية، حيث يكون هدفهم الأساسي هو الاستمتاع بمشروبهم المفضل أو التقاط صور لنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، فتحولوا بذلك دون ان يشعروا  إلى مستهلكين يفتقدون عنصر التأمل والاتصال الحقيقي بالمكان والناس.

وعلى الرغم من التغيرات التي طرأت على مفهوم ارتياد المقاهي، إلا أنها لا تزال تحتفظ بدورها كمساحة للتواصل الاجتماعي، حيث تجمع الأصدقاء والعائلات وتوفر بيئة مريحة للنقاش والاسترخاء، حتى في ظل هيمنة التكنولوجيا.

كما ان المقاهي لا تزال تلعب دورا ثقافيا في بعض الأماكن، حيث تستضيف أمسيات أدبية وعروضا فنية، مما يعيد إحياء دورها القديم كمنصة للتبادل الثقافي والإبداع.

و في النهاية، تبقى المقاهي القديمة بالنسبة لنا نحن  (شيبان الستينات) جزءا أصيلا من حياتنا الاجتماعية والثقافية، تحمل في طياتها ذكريات الماضي وتحديات الحاضر،فقد لا يكون رواد المقاهي اليوم مثل نجيب محفوظ و لا كسعيد السريحي و كعبده خال ، ولكنهم ما زالوا يملكون الفرصة لإعادة اكتشاف هذه الأماكن بطريقة أكثر عمقا وتأملا.

ان التأمل والإلهام ليسا مقتصرين على جيل محدد أو زمان معين، بل هما ممارسة يمكن لكل فرد تبنيها، إذا تمكن من التخلص من الانشغال بالتكنولوجيا والعودة إلى مراقبة الحياة من حوله، فالمقاهي أكثر من مجرد مكان لشرب القهوة، و هي نافذة تطل على عوالم من الأفكار والإبداع لا حدود لها.

المقاهي ليست مجرد طاولات وكراسي ونادل، بل هي مساحات تتجلى فيها الحياة بكل تفاصيلها، ومن خلالها، يمكن لمن يجلس فيها أن يستلهم قصصا لا حصر لها، وإذا أمعنا النظر في الحياة اليومية داخلها، سنكتشف أنها مليئة بالقصص والأحداث التي تشكل مصدر إلهام لمن يمتلك عينا متأملة وقلبا متفتحا.

فالأشخاص الذين يأتون اليها من مختلف الخلفيات، والأحاديث المتنوعة التي تدور على الطاولات، وحتى الصمت بين الغرباء، كلها تفاصيل تحمل في طياتها عوالم غنية بالإبداع تستحق الاكتشاف.

ما يميز مقاهينا الحديثة اليوم عن غيرها من المقاهي القديمة هو تنوع روادها، حيث يلتقي فيها الأفراد من مختلف الطبقات والأعمار والثقافات، هذا المزيج الفريد يخلق بيئة نابضة بالحياة، تمنح من يبحث عن الإلهام فرصة ذهبية للتواصل مع الواقع بعمق أكبر.

رغم أن بعضنا من كبار السن يشعر بأن المقاهي فقدت روحها القديمة، إلا أن جوهرها ما زال موجودا، ولكنها تتطلب من زوارها الوعي بكيفية استثمارها، فربما يكون الحل في التوقف عن الانغماس في هواتفنا الذكية والنظر حولنا، حيث توجد القصص في ملامح كل الوجوه، وفي ضحكات الأصدقاء، وفي حتى حركات النادل الذي ينساب بين الطاولات بمهارة عجيبة.

حتى في يومنا هذا، لا تزال المقاهي تُلهم العديد من الكتّاب والفنانين بأفكار لا تعد و لاتحصى ، ففي بعض المدن الكبرى مثل باريس وإسطنبول والقاهرة، تشكل المقاهي رمزا للإبداع الأدبي والثقافي ، وهناك العديد من المقاهي التي يرتادها الكتّاب والمبدعون المعاصرون تركت بصمتها في أعمالهم.

ثم إنَّ الموجة الحديثة من المقاهي المتخصصة أعادت تقديم المقاهي كمساحات تجمع بين الفن، والحرفية، والجودة العالية، مما جذب إليها جيلا جديدا من روادها الذين يبحثون عن تَجْرِبَة متميزة تختلف عن المفهوم التقليدي للمقاهي القديمة.

والجلوس في المقهى قد يبدو نشاطا بسيطا ، ولكنه يحمل إمكانيات كبيرة للاتصال الإنساني والإبداع الشخصي، فعندما نتعلم كيف ننظر إلى المقهى كمسرح يومي للحياة كما كان ينظر اليه نجيب محفوظ يمكننا أن نجد الإلهام في كل زاوية من زواياه.

لذا، دعونا نأخذ لحظة للتوقف عن متابعة الشاشات الصغيرة ونبدأ في ملاحظة العالم الكبير من حولنا.

دعونا نعود إلى جوهر المقهى كمساحة للتواصل والتأمل، حيث يمكن لكل طاولة أن تكون بداية لقصة جديدة أو لفكرة ملهمة أو لقصيدة جميلة.

دعونا لا نطلق على كبار السن الذين يرتادون مقاهينا الحديثة مصطلحات كـ “داديشوقر” (Sugar Daddy) ولا على النساء الكبيرات مصطلح كـ “شوفر بيبي” (Sugar Baby).

دعونا نتجنب إطلاق المصطلحات غير اللائقة أو التمييزية على الأشخاص بناءً على أعمارهم أو أماكن تواجدهم ، فالمقاهي في النهاية هي أماكن للتواصل والتأمل والقراءة تبادل المعلومات والخبرات ، ويجب أن يُنظر إلى جميع روادها بمنظور من الاحترام والتقدير بغض النظر عن اعمارهم أو خلفياتهم، فهذه المصطلحات قد تُستخدم في سياقات معينة، ولكنها ليست مناسبة لكل حالة ولا تعكس احترام العلاقات الإنسانية القائمة على التقدير المتبادل.

والمقاهي ليست مجرد أماكن لتناول القهوة والتقاط صور السيلفي ، بل هي مختبر اجتماعي كما كان يعتبرها نجيب محفوظ، ونافذة يُطل منها الأدباء و الكتاب والشعراء والسياسيين على الحياة، وركن هادئ يمكن للروح أن تجد فيه متنفسا وسط صخب العالم الذي لا يتوقف عن الضجيج، وربما يجدون ما وجده فيها نجيب محفوظ، من تلك اللحظات العابرة بين أكوابها وطاولاتها إلهاما يغير حياتهم وحياتنا وحياة الآخرين.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى