كُتاب الرأي

السعودية: مقبرة للجنود

محمد الفريدي

السعودية: مقبرة للجنود

كان لي صديق سعودي من أصول تركية سألني ذات يوم عن سبب إطلاق الأتراك لهذا المثل الذي يقال بالتركية :
‏“Arabistan’a gidenin geri dönmesi beklenmez”
والذي ترجمته: “من ذهب إلى الجزيرة العربية لا يُنتظر عودته”.

فقررت البحث عن أصل هذا المثل، ووعدته بإيجاد الإجابة. وبعد البحث، اكتشفت أن السبب يعود إلى الحقبة العثمانية، حين سعت الإمبراطورية إلى فرض هيمنتها على الجزيرة العربية، مستغلة مركزية ما يُسمى بالخلافة الإسلامية في إسطنبول، واعتبار الجزيرة العربية جزءا من “الوطن التركي” الخاضع لسيطرتها.

في تلك الحقبة، كانت الجزيرة العربية تُعد منطقة صعبة، بسبب طبيعتها الصحراوية وندرة مواردها، إضافة إلى مقاومة قبائلها الشرسة للاحتلال العثماني. ونتيجة لذلك، أطلق الأتراك عليها لقب “مقبرة الجنود”، وأصبحت رمزا للموت والخسائر التي تكبدها الجيش العثماني، ليظل كل شبر فيها شاهدا على معاناة من يحاول السيطرة عليها.

ورغم محاولات العثمانيين فرض سيطرتهم، قاومت القبائل العربية بشدة، معتبرة إياهم قوة استعمارية تسعى للهيمنة واستغلال مواردها.
ورأت القبائل العربية في وجود العثمانيين غزوا واحتلالا، ورفضت الخضوع لسلطة غريبة عن تقاليدها وهويتها.

تركت تلك الحقبة أثرًا عميقا في الذاكرة التركية، حيث توارثت الأجيال قصص الجنود الذين ذهبوا إلى الجزيرة العربية، ولم يعودوا، ولا تزال الأغاني التركية تُردد معاناتهم، وتصور الألم الذي خلفته تلك الحملات في صحراء الجزيرة العربية، التي كانت تعتبرها أرضًا خطرة ومعادية.

من خلال هذه الأغاني، يمكننا استشعار عدم الثقة التركية في سكان الجزيرة العربية، حيث وصفوهم بـ “المتمردين” و”الخونة”، واتهموهم بالتعاون مع القوى الأجنبية لتقويض سلطتهم، بسبب شدة مقاومتهم.

إلى جانب المقاومة المسلحة، عايش الأتراك معاناة الجزيرة العربية، حيث نقل الضباط العثمانيون الذين أقاموا فيها قصصًا عن بسالة القبائل التي أدهشتهم، وواجه الجنود تحديات الطبيعة القاسية، مثل الحرارة وندرة المياه، مما جعلها من أصعب الأماكن للخدمة العسكرية.

كانت المقاومة المسلحة من القبائل العربية العامل الأبرز في صعوبة المهمة العثمانية، حيث رفضت التعاون أو الخضوع لسلطة بعيدة عنها، وظلت صامدة لسنوات، مستندة إلى عزيمتها وارتباطها بقداسة أرضها.

ولا تزال علاقة الدولة العثمانية بالجزيرة العربية موضوع نقاش بين المؤرخين؛ فبعضهم يعتبرها استعمارًا، بينما يرى آخرون أنها محاولة لتوحيد العالم الإسلامي ، ولكن ما لا يمكن إنكاره هو شجاعة القبائل العربية في الدفاع عن كرامتها، إذ بقيت الجزيرة العربية رمزًا للمقاومة والكرامة، ورفضت أن تكون ولاية خاضعة لإرادة العصملي.

وتظل تلك الحقبة شاهدة على صراع بين قوة مركزية مدربة ومدججة بالأسلحة حاولت فرض سيطرتها على بلاد لا علاقة لها بها، وقبائل رفضت المساس بهويتها. وفي النهاية، انتصرت تلك القبائل، وأصبحت الجزيرة العربية رمزا للقوة والمنعة والعزة، وتجسدت إرادتها في صمود الأجيال التي رفضت الخضوع لأي قوة خارجية، مؤكدةً أن عزيمة شعب يؤمن بحرية أرضه وهويته لا يمكن كسرها من أي قوة.

من بين الأغاني التركية التي تتحدث عن موت الجنود في الجزيرة العربية، أغنية “يمَن توركوسي” (Yemen Türküsü) التي كان الأتراك يعتبرون فيها مناطقنا الجنوبية جزءا من اليمن، حيث أبيد الجنود على يد قبائلها، وتقول بعض كلماتها:

“لا تسألني يا أمي عن يَمَن.
من يذهب إلى هناك لا يعود أبدا.
الجبال شاهقة، والوديان مليئة بالخطر.
والدموع لا تكفي للحزن”.

تعكس الأغنية الحزن العميق في المجتمع التركي على جنوده الذين فقدوا في حملات الجزيرة العربية، وتُصور اليأس والمعاناة، إذ كان ذَهَاب الجنود إليها يعتبر رحلة بلا عودة أو محطة أخيرة.

وإلى جانب الأغاني والأمثال، نقلت تقارير الضباط والموظفين الأتراك العديد من القصص المؤلمة التي تعكس واقع الحياة في الجزيرة العربية خلال تلك الفترة.

أحد الجنود العثمانيين الذين أُرسلوا إلى الجزيرة العربية كان يُدعى إسماعيل، تقول الروايات التركية إنه كان شابا من قرية صغيرة في الأناضول، وودّعه أهله بالدموع والدعاء، وعندما وصل إلى الجزيرة، واجه واقعا صادما: حرارة الصحراء الشديدة، ندرة المياه، والمقاومة الشرسة من القبائل المحلية على طول الصحراء وعرضها.

أُرسل الجندي العثماني إسماعيل من قرية صغيرة في الأناضول إلى الجزيرة العربية، حيث ودّعه أهله بالدموع والدعاء. وعند وصوله، واجه حرارة الصحراء الشديدة، وندرة المياه، والمقاومة القوية من القبائل المحلية.
وفي إحدى المعارك، أصيب إسماعيل بجروح بالغة، وظل وحيدًا في الصحراء، حتى وجدته إحدى القبائل العربية التي ساعدته، ورغم محاولاته للعودة، مات في الصحراء وترك رسالة بجواره : “أشتاق لقريتي، لكنني أعلم أنني لن أعود إليها، أخبروا أمي أنني سامحتها على دموعها التي لم تلامس قلوب المسؤولين”.

أي اعتداء على المملكة سيواجهه شعبها وقبائلها بشراسة تفوق ما واجه الأتراك في الماضي، هذه الأرض ليست مجرد رقعة جغرافية على أطراف الشرق، بل هي إرث مقدس يمثل هويتنا وديننا وتاريخنا، وكل شبر فيها يحكي قصة صمود وتضحيات رجالنا الذين رفضوا أن تكون أرضهم لقمة سائغة.

لن نسلمها بسهولة، إما أن يموت المعتدي في صحارينا أو نموت دفاعا عنها، فهي روحنا وكرامتنا، وأمنها مسؤولية يحملها كل سعودي.

وعلى مر التاريخ، حاول الكثيرون إخضاع الجزيرة العربية، وفشلوا، لأنهم لم يدركوا قوة انتماء أهلها لأرضهم. نحن اليوم أحفاد من جعلوا هذه الأرض “مقبرة للجنود”، ولن نكون أقل شجاعة منهم.

ونؤمن أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس، ومن يعتدي عليه سيواجه إرادة صُلْبَة وأرواحا تفضل الموت على رؤية وطنها مهانا للحظة واحدة.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى