كُتاب الرأي

نحن لسنا عبئاً على الرجل الأبيض

 

“خذوا عبء الرجل الأبيض

‎أرسلوا أفضل أبنائكم إلى الحرب

‎لتقمعوا شعبا متوحشا

‎نصفه طفل ونصفه شيطان”.

‎– روديارد كيبلينج

‎بهذه الكلمات، يبدأ الشاعر البريطاني روديارد كيبلينج، الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1907، قصيدته الشهيرة “عبء الرجل الأبيض” (1899)، التي يقدم فيها تبريرا استعماريا غريبا، ويصور الاستعمار الغربي للشعوب العربية كـ”واجب أخلاقي ”يتحمله الرجل الأبيض، ويعتقد أن الشعوب العربية شعوب متخلفة وقاصرة، وبحاجة إلى الإرشاد والحماية، وعاجزة عن إدارة شؤونها، وهذه القصيدة تجسد هذه الذهنية الاستعمارية التي استمرت لعقود مستغلة مفاهيم الجهل والعلم لتخلق سردية كاذبة عن تفوقه العرقي، وتربط بين الذكاء والعرق بهدف تكريس نظام عالمي عنصري يقوم على استغلال الشعوب العربية والإسلامية ونهب مقدراتها وثرواتها.

‎لقد صورت هذه القصيدة العرب ككائنات عاجزة لا يمكنها بناء مجتمعات متحضرة دون تدخل خارجي من “الرجل الأبيض” وتصف الإنسان العربي بأنه “نصف شيطان ونصف طفل” في محاولة لتقليل من شأنه ونزع إنسانيته لتبرير سياسات الهيمنة الاستعمارية وجعلها تبدو وكأنها مهمة نبيلة رغم أن الاستعمار كان و لايزال في جوهره استغلال وظلم كبير، و لهذا السبب وصف وزير الدفاع الإسرائيلي ذو الأصول البولندية، يوآف غالانت، الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية” في أثناء إعلانه عن فرض حصار شامل على غزة، شمل قطع الكهرباء والماء والوقود، في تصريح يتجاوز النازية، ويهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرير الانتهاكات المدعومة من الغرب ضد اطفال رضع و نساء عزل.

‎لقد البداية، لجأ الاستعمار الغربي في الماضي إلى استخدام العلم لتبرير أفكاره الاستعمارية وطرح أسئلة مضللة على الشعوب مثل: هل الذكاء مرتبط بالعرق؟

‎وصمم اختبارات الذكاء في تلك الفترة وفق معايير غربية منحازة دون مراعاة السياقات الثقافية والحضارية للشعوب العربية فكيف يمكن قياس ذكاء اشخاص يعيشون في بيئة بدوية أو زراعية باستخدام اختبارات مصممة للبيئة الصناعية؟

‎كانت هذه الاختبارات التي بدا أنها علمية في البداية محكومة بالتحيزات الثقافية للغرب وعُرض الذكاء في هذا السياق على أنه سمة مميزة للعرق الأبيض فقط.

‎و العلم الحديث دحض العلاقة بين الذكاء والعرق، وأثبتت الدراسات الجينية أن الاختلافات بين البشر سطحية، وأن الأصل الجيني واحد ، وأن هذه الاختبارات محكومة بالتحيز الثقافي، وأن الذكاء ليس سمة ثابتة مرتبطة بعرق معين  ، بل هو متعدد الأبعاد ويشمل القدرة على التكيف وحل المشكلات والإبداع ، وبذلك، أكد العلم الحديث أن التصورات الاستعمارية القديمة التي قدمها كيبلينج  وغيره ليست سوى خرافات وتخاريف من رأسه و رؤوس الصهاينة المؤمنين بهذه الفكرة العنصرية من جماعته في الغرب المتعنصر لعراقيته .

‎ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الأفكار الشاذة ، فإن الحركات اليمينية المتطرفة اليوم أعادت طرح هذه الأفكار باستخدام “أبحاث” مزعومة لتبرير التمييز العنصري والتفوق العرقي مما يعيد إنتاج الفكر الاستعماري القديم الذي سعى كيبلينج لترسيخه واستعمر الغربيون القدامى بموجبه الدول العربية والإسلامية عقوداً طويلة.

والسؤال الأهم هنا هو: لماذا تستمر هذه الأفكار في الظهور؟

‎الجواب يكمن بكل بساطة في الجذور التاريخية لهذه الأطروحات المتغطرسة ، حيث تستمر الدول المستعمرة في استغلال هذه الأفكار لتبرير تفوقها العرقي وممارساتها التمييزية بهدف السيطرة على الشعوب الأضعف.

‎على الرغم من أن العلم الحديث أثبت في الغرب نفسه أن البشر يتشاركون أكثر من 99% من جيناتهم، إلا أن فكرة العرق استخدمت من قبل و ما زالت تُستخدم  اليوم كذريعة لتبرير التمييز والاستعمار و ان قالوا لنا (ملاعين الصلايب) العكس.

‎وقصيدة كيبلينج ليست مجرد نص أدبي بل كانت جزءا من محاولة لتبرير الظلم تحت ستار الأخلاق، وتوظيف العلم والجهل والعرق لتأصيل احقيتهم في استعمار دولنا و احكام السيطرة علينا.

‎ونحن أمة خالدة لها ارثها العظيم وعلينا أن نتعلم من هذه الأخطاء التاريخية وأن ندرك أن مفاهيم الغرب العنصرية لا مكان لها في عالم يسعى لتحقيق العدالة والمساواة لكل سكان الأرض ، و الذكاء سمة إنسانية مشتركة تنمو مع الفرص المتساوية للجميع ولا علاقة لها بالأعراق ابدا فمن أين جاءوا بهذا التصنيف الذي لا يقبل به العقل ؟

‎إن عقلية المستعمر الغربي تجاه الشعوب العربية تجسدت في أدبياته التاريخية التي صورت العرب على أنهم أقل ذكاء و إنسانية منه وأدنى قدر وقدرة ومكانة، واستخدم الحديد و النار و الشعر والأدب والفنون لترويج صورة نمطية مهينة عن العرب، واعتبر قصيدة كيبلينج “عبء الرجل الأبيض” جزءا من هذا التيار الفكري الذي يسعى لإقناع العالم بأن الشعوب العربية لا تستحق الحياة ولا السيادة على اراضيها، وأن التدخل الاستعماري المباشر في بلدانهم ضرورة أخلاقية تقع على عاتقه ، وهو الحل الأمثل لتحقيق السلام والاستقرار العالمي.

‎كما قال الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين في إحدى قصائده:

“يا أرض الصحراء، يا مهد الإنسانية،

‎عُدتِ الآن مقبرة للحضارة!”

‎هذه الأبيات تعكس عقلية المستعمر الغربي التي ترانا شعوبا متخلفة فقدت القدرة على النهوض الحضاري ، ولا يمكننا استعادة هذا المجد إلا عبر “إرشاد” القوى الاستعمارية وتدخلها في حياتنا بشكل مباشر ، وعلى الرغم من اعترافها بجمال الشرق وتاريخه فإن لامارتين لا يعترف بالعرب المعاصرين إلا باعتبارهم شعوب عاجزة عن تنظيم حياتها وبالتالي فهم بحاجة إلى تدخل غربي مباشر .

‎و جزء آخر  مهم من هذه الصورة الاستعمارية النمطية كان يركز المستعمر الغربي على المرأة العربية و يصورها في أدبياته الاستعمارية كرمز للتخلف والقمع و يدعي أنه جاء ليحررها من الظلم ، في حين كانت هذه الصورة مجرد ذريعة لتعزيز نفوذه الثقافي والسياسي في المنطقة العربية كما  كان يقول الشاعر الفرنسي فكتور هوغو:

“في عينيكِ، أيتها الشرقية، يسكن الظلام

‎وفي أساوركِ يختبئ القيد”

‎رغم تعاطف الشاعر الظاهري كانت هذه الصورة تحمل نظرة استعلائية ترى أن المرأة العربية ضحية لثقافتها وأنه لا يمكن تحريرها من قيودها إلا بتدخل غربي مباشر .

‎اليوم، نحن تعلمنا ولله الحمد وفهمنا مخططات الغرب جيدا و نحتاج إلى مواجهة سردياته الاستعمارية الكاذبة بالقلم و من خلال تعزيز الوعي بهويتنا الثقافية العربية الاصيلة و ان نقول له في مقالاتنا في كل مناسبة ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش:

“سجّل أنا عربي

‎ورقم بطاقتي خمسون ألف

‎وأطفالي ثمانية

‎وتاسعهم سيأتي بعد صيف!”.

‎بهذه الكلمات فقط نرد على خطاب المستعمرون الغربيون الجدد الذين يدعون التفوق العرقي واحقيتهم في استنزاف ثرواتنا و مواردنا الطبيعية بحجة أن ذكائنا أقل من ذكائهم ، ونؤكد لهم بأن هويتنا باقية ما بقيت السموات والارض ، وأن الشعوب العربية، رغم كل محاولات الهيمنة و (الطهمجة ) التي ينتهجها الغرب لا تزال قادرة على النهوض من جديد.

محمد الفريدي

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى