معايير العيب سبب تخلفنا

محمد الفريدي
معايير العيب سبب تخلفنا
اتذكر وأنا صغير أنني تسلقت شجرة في حينا فصاح والدي غاضبا: محمد انزل عيب، ولد كبير يتسلق شجرة، شعرت بالحرج حينها، ونزلت دون ان أفهم سبب هذا العيب.
كبرت وكبرت معي كلمة عيب، وصارت تلاحقني كظلي في كل خطوة من خطواتي.
وفي الثانوية العامة طلب مني أحد المعلمين ان ألقي كلمة ارتجالية أمام الطلاب، وكنت في وقتها شخصا يحب الكلام الكثير بمعنى مختصر (مكلمنجي)، ولكنني ترددت بعد ان همس لي أحدهم (ما قلنا لك عيب يا ولد الثرثرة) فصمت، وسلب مني هذا العيب صوتي ولساني لفترة طويلة.
المهم ان التغيير الحقيقي بدا معي عندما التحقت بكلية قوى الامن الداخلي، والتقيت بطلاب من مختلف مناطق المملكة يتحدثون بحرية دون خوف من كلمة “عيب” التي كانوا لا يقيمون لها وزنا.
هنا بدأت أسأل نفسي لماذا يجب ان تتحكم في حياتي هذه الكلمة؟ ولماذا لا أختار ما أراه صوابا بعيد عن سيطرتها وسيطرة من يريدون ترسيخها في رأسي كحقيقة مسلمة؟
و اول مرة اتذكر كسرت فيها حاجز العيب كانت في ندوة مفتوحة طرحت فيها فكرة غير لائقة في عرف مجتمعنا، وفوجئت بتشجيع وتأييد الجميع.
حينها فقط أدركت ان العيب مفهوم متغير يعتمد على السياق، وتعلمت التمييز بين العيب الحقيقي والعيب الذي يستخدمه مجتمعنا كأداة لتطويعنا والسيطرة على عقولنا بقناعات اجتماعية قديمة بالية تتعارض مع العقل والمنطق والدين الذي نؤمن ببعضه على مزاجنا، ونكفر ببعضه إذا تعارض مع عاداتنا وتقاليدنا.
ورغم ان الخوف من العيب ما زال يرافقني في بعض المواقف إلي اليوم إلا أنه أصبح في نظري مجرد صوت داخلي أراجع معه أفعالي فقط، ولا أسمح له بتقييد حريتي، فقد علمتني التجارب والرحلة الطويلة ان العيب ليس عدوا دائما بل هو مفهوم متغير يحتاج الى إعادة تعريف بين الحين والآخر، وأدركت ضرورة تعليم أبنائنا التمييز بين الأخلاق والقيم الحقيقية والتقاليد والعادات الاجتماعية الفارغة لبناء جيل قادر على التعبير عن رأيه بحرية واحترام وبدون قيود واهية كالتي قيدتني زمنا طويلا.
ففي مجتمعنا تكاد كلمة عيب تكون أكثر كلمة نرددها في حياتنا اليومية، وتلاحقنا منذ طفولتنا حتى كبرنا.
هذه الكلمة الصغيرة في حجمها تحمل وزنا كبيرا من القيم والتقاليد والقناعات التي تشكل سلوكياتنا، وتؤطر أفكارنا على المدى البعيد والقريب، وتبدو لنا وكأنها شرطي أخلاق يرافقنا في كل مكان كظلنا، وهي في الحقيقة أداة للقمع الاجتماعي وكبح لحرياتنا الفردية وإخماد لتفكيرنا الحر.
فمنذ نعومة أظفارنا بدا مجتمعنا في تخويفنا بكلمة عيب التي كان يستخدمها بالغلط كأداة تربوية، والطفل الذي يتعلم منا استكشاف عالمه بحب وفضول وبراءة كعادة كل الأطفال يواجه تحذيرات متكررة (لا تفعل هذا عيب)، (لا تقل هذا عيب)، (لا تردد هذا عيب)، (لا تجلس هكذا عيب)، (لا تلبس هذا عيب)، (لا تمشي بهذه الطريقة عيب).
قائمة طويلة من المحظورات التي تفرض علينا دون شرح او تفسير لأسباب حظرها علينا حتى أصبحت بمثابة قيود كثيرة وكبيرة تقيدنا.
هذه المحظورات جعلتنا نطيع دون فهم ونخضع لمعايير اجتماعية لا نؤمن بها.
فهي ليست أداة تربوية كما يعتقد البعض، بل هي وسيلة قمع تستخدم لتحديد سلوكياتنا المقبولة وغير المقبولة دون أن يكون لنا حق الاختيار أو التجريب، وهذا ما يجعلها بحد ذاتها أداة للتحكم والسيطرة لا للإصلاح والتقويم، وغذت النفاق الاجتماعي فينا بصورة فجة حتى أصبحنا ندين علنا ما نمارسه سرا دون أي إحساس بالذنب.
والأخطر من هذا أنها أثرت على تفكيرنا فعندما يقول لنا أحدهم (لا تفكر بهذا عيب) فإنه يقمع بذلك أفكارنا، ويعيد إنتاج مفاهيمه التقليدية دون ان يمنحنا فرصة لإعادة تقييمها او نقدها فتجعلنا نسير بلا وعي خلف تيار اجتماعي جامد يخاف من التغيير، ويقاوم أي فكرة جديدة لا تتناسب مع ما ترسخ في (رأسه المربع) من أفكار شاطحة ومفاهيم تافهة لا قيمة لها.
هذه الرقابة الذاتية والقمع الاجتماعي جعلتنا أسرى لخوف دائم من مخالفة المعايير الاجتماعية بدلا من ان تستخدم كتحذير تربوي مفيد يرافقه تفسير يساعد الأجيال على فهم سبب اعتبار هذا السلوك خاطئا.
ولتحرير أنفسنا من قمع هذا العيب الاجتماعي علينا إعادة تعريفه بما يتناسب مع قيمنا الإنسانية الحديثة حتى لا يكون قيدا يمنعنا من استكشاف العالم او التعبير عن أنفسنا بالطريقة التي نراها صوابا، ولا تملأ علينا.
بل يجب ان نحوله الى معايير داخلية ترتبط بقيم جوهرية مثل الاحترام والصدق والعدالة والأمانة والنزاهة والترابط الاجتماعي والتوازن.
فمن خلال هذا التحول فقط يمكن ان يصبح العيب وسيلة لبناء مجتمع أخلاقي حقيقي بدل من أداة للقمع الاجتماعي.
وإعادة تعريف العيب تبدأ من منازلنا، عندما نعلم أطفالنا ان سلوكا معينا لا يعتبر عيبا، ونشرح لهم السبب، فهذا الحوار هو ما يبني منظومة معرفية أخلاقية حقيقية قائمة على القناعة لا على الامتثال الأعمى فأجيالنا القادمة بحاجة ماسة الى حرية فكرية لتطور أفكارها بدلا من فرض قواعد سلوكية غير مبررة عليها من الآن، ويعتنقها لأنه وجدنا عليها.
وسائل التواصل الاجتماعي رغم ما اتاحته من معلومات وفرص للحوار زادت من تعقيد مفهوم العيب تعقيدا إضافيا ، وأصبحت ساحة للنقاشات السطحية والتطرف والاستفزاز، وأعادت استخدام العيب كأداة قمع بطريقة جديدة مختلفة.
تحرير العيب لا يعني التخلي عن قيمنا بل إعادة صياغته ليتناسب مع متطلبات العصر الجديد، ويتحول الى مفهوم يشجع على الحوار والنقد البناء لبناء مجتمع أكثر انفتاحا وإنسانية، ويعزز الحرية المسؤولة، ويضبط السلوكيات عن قناعة تامة، و اما أنا فرغم حبي للفرح والمرح والضحك، وبلغت من العمر عتيا إلا أنه لا يزال يزعجني كثيرا تقديسنا لمفهوم العيب أكثر من تقديسنا لتعاليم السماء التي جعلنا تعاليم البشر أفضل منها بمئات المرات .
كاتب رأي
اخي محمد الفريدي :
اعتقد ان عنوان مقالك قاسي جداً على جيلنا وعلى اجيال سبقتنا تعلمنا منهم الكثير والكثير من أساسيات الحياة والضبط والربط..
لسنا أمة متخلفة كما يصفنا عنوان المقال ففينا العباقرة وفينا الدكاترة وفينا المهندسون وفينا العلماء وإن شئت فينا من وصل الفضاء ..
وأشاطرك الرأي في بعض جوانب المقال ..
ولا اناقض نفسي عندما اقول اشاطرك الرأي في كثير من جوانب المقال من كلمة عيب التي كانت ترمى لنا في كل عمل يراه كبارنا انه عيب في زمانهم وظروفهم السابقة لكي لانرتكب بعض الاخطأ من منظورهم الشخصي التي كبتت بعض من حرياتنا وقتها ..
شكراً لكاتبنا المبدع لتنوع مقالاته التي تعودنا منه كل جديد وبأسلوبه الخاص به والذي لايجيده سوى الفريدي. تقبل تحياتي .
أخي العزيز سعادة المستشار أبو عبدالله..
أسعد الله أوقاتك بكل خير، وأشكرك على تعليقك الثري الذي أعتز به وأراه إضافة قيمة للنقاش حول المقال.
أتفق معك تماما أننا جيل محظوظ بما تعلمناه من الأولين من ضبط وربط، وهذا إرث لا يمكن إنكاره، ونحفظه لهم بكل محبة وتقدير واحترام.
ومع ذلك، فإن كلمة “عيب” كانت تُستخدم في كثير من الأحيان دون توضيح أو شرح كافٍ، مما جعلها تتحول في كثير من الأحيان إلى وسيلة قمع أكثر من كونها وسيلة تربية وتعليم.
فقد كان يُقال لنا ، وأنت تعلم هذاجيدا، “عيب يعني عيب” دون تفسير أو محاولة لشرح الأسباب، ودون أن يكون لك الحق في أن تسأل لماذا هي عيب، وهذا ما جعل أثرها سلبيا في كثير من المواقف، حيث لم تساعدنا هذا الكلمة و هذا الأسلوب على فهم أبعاد الخطأ بوعي واقتناع تام.
ولا يعني يا سيدي أن منا أطباء ومهندسين وضباط وعلماء ورواد فضاء ووزراء وحتى أمراء أن استخدام هذه الكلمة كان إستخداما صحيحاً في جميع الأحوال.
ما أريد إيضاحه في سياق المقال هو أننا لسنا بصدد إنكار فضل الأجيال السابقة أو التقليل من إنجازاتها وشأنها، وإنما الهدف هو تسليط الضوء على نقطة معينة تحتاج إلى مراجعة وإعادة صياغة أساليبنا التربوية.
فالغاية أن تكون كلمة “عيب” أداة تربوية واعية، مدعومة بالإقناع و الشرح والتوضيح الذي يربطها بالقيم الدينية والمبادئ السامية النبيلة، بحيث تكون وسيلة لبناء الشخصية لا لكبتها.
أما عن عنوان المقال، فأحب أن أوضح أنه لم يتطرق إلى أننا “أمة متخلفة”، وإنما ركز على أن كلمة “عيب” سبب من أسباب تخلفنا، وهناك فرق كبير بين العبارتين كما تعلم، وشتان بين وصف الأمة بالتخلف وبين الإشارة إلى سبب من الأسباب التي تعيق تقدمنا.
أخي الكريم، إن ما نحتاجه اليوم هو فتح مساحة أكبر للنقاش والتفكير الواعي مع الأجيال حول أساليبنا في التربية والتعليم التي نستخدمها في المنزل والمدرسة والشارع، حتى لا نظل أسرى عادات وتقاليد لا نعي أحيانا جذورها أو أهدافها الأصلية.
أشكرك مرة أخرى على دعمك ومتابعتك لما أكتب، وتأكد أن تعليقاتك وغيرها من الآراء الثاقبة تثري النقاش وتحفزني لتقديم المزيد.
أخوك أبو سلطان
مقالة اكثر من رائعة سلم قلمك استاذ محمد
شكرا جزيلا لك أستاذة فاطمة على كلماتك الراقية التي أعتز بها كثيرا ، ورأيك دافع لي للاستمرار في تقديم الأفضل.
سلم فكرك وقلمك، ولك مني خالص التقدير والاحترام.
أخوك أبو سلطان
كاتب صحيفتنا المبدع و رئيس تحريرها القائد الفذ / محمد الفريدي
مقالك هذا يحمل في طياته حكمة عميقة ورؤية ناضجة حول مفهوم العيب والحرية الشخصية .
إن تأكيدك على أن العيب ليس عدوا بل هو مفهوم متغير يعكس تحولاً فكرياً لافتاً.
كما أن حديثك عن أهمية تعليم الأجيال القادمة التمييز بين القيم الحقيقية والتقاليد الاجتماعية يعكس وعياً كبيرا ودورا محوريا في بناء مجتمع قادر على التفكير بحرية واحترام . وبالفعل ، أنت تسلط الضوء على مسألة جوهرية في حياتنا ، وهي كيفية تحدي القيود الاجتماعية من أجل تحقيق التوازن بين الحرية والتقاليد ، بشرط عدم الإخلال بتعاليم الدين .
مرة أخرى شكرا لك على إثراءنا وإثراء القراء👍.
الأخت العزيزة الأستاذة ابتسام ..
أشكرك من أعماق قلبي على كلماتك التي أعتز بها كثيرا، وتعليقك الراقي هذا يعكس بصراحة فكرا ناضجا ووعيا عميقا بقضايا المجتمع.
كما أن إشادتك بالمقال وتفصيلك لرؤيته يؤكدان حرصك على التفاعل مع الأفكار والمشاركة في بناء حوار هادف. التوازن بين الحرية والتقاليد مع الالتزام بتعاليم الدين هو هدف نسعى جميعا لتحقيقه، ومداخلتك أضافت بعدا مهما للنقاش.
وقد قال أحد الزملاء الكبار قدرا وعلما ورتبة ومرتبة على الواتساب – للعلم فقط: (وأضم صوتي لما أشارت له الأخت ابتسام الجبرين في تعليقها الجميل الواعي والمفيد على مقالكم “معايير العيب”).
شكرا لك أستاذة على مداخلاتك العميقة ودعمك المستمر وتشجيعك الذي يمنحني دافعا أكبر للمضي قدما في طريق الكلمة الصادقة، وتقبلي خالص تقديري واحترامي.
أخوك أبو سلطان
مقالك جميل ويلامس الحقيقة المرة التي عشناها وتعايشنا معها فترة من الزمن ليست بالقصيرة .
أخي العزيز أبو رائد
أشكرك على رأيك الذي أعتز به كثيرا.
بالفعل، ما تناولته في المقال يعكس جزءا من الحقيقة المرة التي عايشناها لفترة طويلة ، لكن الأمل يبقى في قدرتنا على إعادة النظر وتصحيح المسار نحو بناء مجتمع أكثر وعيا وتوازنا. تقديري واحترامي لشخصك وقلمك المبدع.
أخوك أبو سلطان