الذهب الذي يهرب من الأسد

محمد الفريدي
الذهب الذي يهرب من الأسد
كان حافظ الأسد في نظر أنصاره شمس أبدية لا تغيب، ولا تختفي ابدا ومحاط بهالة قدسية صنعتها أجهزته الإعلامية حتى أصبحت الحياة مرهونة بإذنه، ونُسجت حوله أساطير خيالية كثيرة منها أنه منقذ سوريا ومدمر إسرائيل، وأن اعتراضا بسيطا من (غولدا مائير) يكفي لأن يحولها إلى أثر بعد عين أو لكومة زبالة تنشق الارض وتبتلعها.
ومع مرور الوقت رأى نفسه بالفعل أنه “أسدًا” لا يفنى فقرر تخليد مجده بنصب تماثيل ذهبية له في كل الساحات والشوارع لتُذكّر شعبه بأنه باقٍ إلى يوم القيامة، ويراقبهم حتى بعد وفاته، وعلى شعبه أن يركع طواعيةً لتماثيله خمس مرات في اليوم والليلة، وحياته واقداره بيد صنمٍ يفرض نفسه إلها على الأرض والسماء.
فصُنع له تمثال ضخم من الذهب يحجب نور الشمس، وفي احتفال مهيب وُضع في الساحة الكبرى حتى أصبح ظله يغطي دمشق كلها، ووقف الناس تحت تمثاله في خوف وخضوع ورهبة بينما كان الكهنة يلقون خطبا رنانة تمجد عظمته وتساويه بالذات الإلهية، ويؤكدون له أن لمعان تمثاله ما هو إلا انعكاس لنوره السماوي على الأرض.
فصدرت الأوامر من قصر الشعب الذي بناه من قوتهم وعرقهم بوجوب ركوع الشعب خمس مرات يوميا أمام تماثيله ومن يتخلف أو يرفض منهم يُؤخذ إلى مكان بارد تختفي فيه الأسماء والوجوه والملامح، ولم يكن لدى الناس وقت للتفكير إلا في الحياة، وفي البقاء احياء فكل همهم كان فقط في : هل يكفي الخبز لإطعام أسرهم لهذا الأسبوع أم لا؟ وهل المياه الملوثة التي يشربونها ستقتلهم أم ستبقيهم على قيد الحياة ليوم آخر؟
ومع مرور الوقت وعوامل التعرية بدأت تماثيله الذهبية تفقد بريقها، وتساءل الناس : كيف يصدأ الذهب؟
والجواب كان بسيطا ومخيفا : لم يكن ذهبا حقيقيا بل طلاء رخيص على معدن هزيل مثل نظام بعثه الذي بناه، وجعله دينا يتعبد به الشعب.
كانت تماثيله انعكاسا لفترة حكمه وحزبه الهش: مظاهر براقة تخفي خلفها معدنا هشا من الزنك الذي لا قيمة له، ومع كل عاصفة مطرية كانت تتآكل أكثر فأكثر، ويصبح مظهرها مثيرا للسخرية، وكانت ضحكات شعبه مكتومة خوف من جلاوزة مخابراته، وتتحول تماثيله من رمز للهيبة التي صنعها إلى موضوع للتندر حيث كان الناس يقولون بسخرية: حتى الذهب الذي طلى به أصنامه يهرب منه، ولا يطيقه!
وفي ليلة شتوية خالدة سقط تمثال ابن الصنم الكبير، انهار رأسه أولا ثم سقط جسده الحقير، وتهاوت قاعدته، وتجمع الناس حول حطامه في دهشة وفرح كبير ودون أن يبكي عليه أحد من الذين كانوا يهتفون له بـ “الروح بالدم نفديك يا بشار” أو يلقي أحد كهنته خطاب تأبين وداعه الأخير، وعمّ الصمت المكان، وبدأت دمشق الأبية تلتقط أنفاسها لأول مرة من خمسين عاماً فتساءل أحد الواقفين: “هل سنبني تمثالا جديدا؟!
أجابه آخر بسخرية: لا داعي، فلدينا ما هو أهم: أن نبحث معا عن خبز يسد جوعنا، فقوتنا وقوت أبنائنا ابتلعه الأسد الصغير وعائلته، وهربوا وتركونا لنموت هنا من الجوع.
في تلك اللحظة أدرك الناس أن تمثال الأسد الكبير كان مجرد قطعة معدن حقيرة ورمزا للزيف والكذب والدجل والقمع والتسلط المخيف وسقوطه كان بداية تحرير عقولهم من الخوف الرعب الذي ملأ به القلوب.
وما زالت قصص تماثيله تُروى إلى اليوم شاهدة على حقبة من الخوف والرعب التي عاشها الشعب السوري، ولا يعرف معناها إلا من عاش في تلك الفترة يعبد التماثيل.
واليوم، أصبحت تماثيله التي كانت رمزا لسطوته وبطشه ذكرى لانهيار أحلامه وأحلام ابيه بالخلود وأوهام الذين نهبوا البلاد معه، وتركوا شعبها يعيش في فراغ بعد سقوط أبطالهم المزيفين (اباطرة الكبتاجون).
فالذهب يصدأ ولكن الكرامة لا تصدأ، ولا يمكن لأي نظام ديكتاتوري أن يمحوها من وجود الشعوب، والحرية لا تُمنح من حاكم مستبد، ولا من تمثال من زنك أو ذهب بل تُنتزع انتزاعا عندما تقرر الشعوب التوقف عن الركوع والسجود للبشر وبعد سقوط تماثيل طغاة الشام بقيت الساحات فارغة كأنها تستعيد أنفاسها بعد سنوات من الركوع الإجباري، ولم يعد أحد يهتم بذلك الحطام فقد أصبح همهم الأكبر هو الحفاظ على ما تبقى من حياتهم التي أنهكها الرعب والخوف، وبدأ الناس يتحدثون علنا لأول مرة عن تلك الأيام القاسية، وقال لي أحدهم : نعم، كان الركوع له ولتماثيله مفروضا علينا، ولكن قلوبنا لم تركع له يوما من الأيام.
الشباب الذين نشأوا في عهده كانوا الأكثر غضبا لأنهم نشأوا دون أن يعرفوا طعم الحرية كانوا يُلقّنون فقط الأناشيد التي تمجيد الطاغية العلوي البعثي الأوحد، ويُعلّمون أن التفكير أو الكلام في السياسة جريمة كبرى يعاقب عليها الاله الراحل وابنه لا القوانين وسقوط تماثيله اليوم رسالة واضحة: كل من يعلّق مستقبله على صنم سيسقط معه يوما من الايام مهما طال الزمان.
كانت أساطير طغاة الشام الذين كانوا يُعتبرون رموزا للبطش والقوة وعدم رحمة الضعفاء تنهار مع تماثيلهم ليصبحوا مجرد ذكرى مريرة لفترة حكم مليئة بالخوف والخرافات والجهل، وحتى أولئك الذين كانوا يصدقون بطولاتهم بالأمس بدأوا يتساءلون: كيف لخالدين في الأرض والسماء مثلهم أن يُرموا في هوة النسيان بهذه السرعة، وبهذا الشكل؟!
وفي بعض الزوايا المظلمة بدأ بعض الموالين السابقين يهمسون عن خيباتهم:
صدقنا أكاذيب التماثيل النصيرية، والآن ندفع الثمن.
والمعلمون في المدارس الذين أمضوا سنواتٍ يعلمون الأطفال أن حافظ الأسد وابنه الهارب الجبان كانا نصف إله بدأوا يواجهون أسئلة صعبة من تلاميذهم: كيف لنا أن نصدق أكاذيبكم بعد اليوم يا كذبة؟!
هذا الجيل الجديد أكثر شجاعة من الذي قبله لأنه لم يرَ حافظ الأسدحافظ الأسد إلا في تماثيله المتداعية، ولم يعش تحت ظلالها لحظة واحدة، كانوا فقط شهود على نهايتها، وعلى هيبة جلاديه الذين كان يُرعب بهم ملايين البشر، ومع ذلك لم تكف حناجرهم من ترديد : رحل، ارحل يا بشار!
لكن التحدي الأكبر لم يكن في إزالة حطام تماثيله من الساحات بل في إزالة التماثيل التي تستوطن في قلوب وعقول ملايين السوريين فعقود من الخوف والصمت خلقت شعورا داخليا مخيفا حتى بعد اختفاء ابنه بشار وهروبه الجبان لا يزال الناس يخافون من عودته في أحلامهم لأنهم اعتادوا أن تكون الحرية فكرة ممنوعة في الحزب الأوحد وورغم مرور الزمن ما زال الخوف متجذرا في أعماقهم فقد اعتادوا على العيش في الظلام حيث لا مجال للضوء، ولا للأمل ان يتسللان اليهم مرة اخري، ولكن مع كل يوم جديد كان يبدأ صوت الحرية في التسلل إلى أذهانهم شيئا فشيئا ليؤكد لهم أن الزمن لا ينسى، وأن صمت الشعوب لا يدوم.
فما زالت آثار عهد الأسد وابنه قائمة في سوريا ليس فقط في الأبنية المتداعية والشوارع المتهالكة التي تحمل اسمه بل حتى في الأسئلة التي لم نجد لها أجوبة كلماذا سمح الشعب السوري لأكثر من نصف قرن بتشكيل هذا الصنم حتى صار طاغية يُعبد من دون الله؟
ولماذا استغرقوا كل هذا الوقت لإدراك أن تماثيله الذهبية المزيفة قيمتها الحقيقية لا تتجاوز ثمن كيس (شبس) للاطفال؟
تماثيل الأسد لم تكن مجرد كتل معدنية فحسب بل كانت رموزا لفترة مليئة بالقمع والخوف والاستبداد، ومع سقوطها بدأت رحلة البحث عن كرامة وحرية الإنسان السوري الذي سيختار طريقه دون أن يُفرض عليه الركوع لأي كائن من كان، وإلى أبد الابدين.
اليوم، ساحات مدينة الياسمين خالية من تماثيلهم والشعب السوري لن يسمح بنصب تماثيل جديدة في شوارعها أو كتابة الأناشيد التي تمجد الطغاة، وستظل انهيارات تماثيل هذه العائلة اللعينة درس لجيل تعلم اليوم أن الحرية تُنتزع انتزاعا، وأن الكرامة حياة تُعاش بلا خوف، ولا عبادة تماثيل مصنوعة من معادن رخيصة.
كاتب رأي