زلة لسان تكشف أجندة أمريكا

محمد الفريدي
زلة لسان تكشف أجندة أمريكا
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 أدلى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بتصريح أثار جدلا واسع حين وصف حملته ضد الإرهاب بـ”الحملة الصليبية”، وهو تعبير أثار حساسية كبيرة، خاصة في العالم الإسلامي فاستخدام مصطلح كهذا بجذوره التاريخية والدينية لم يكن مجرد زلة لسان بل كشف عن أيديولوجية وسياسات تخفيها الإدارة الأمريكية تجاه جميع المسلمين والعالم العربي.
مصطلح “crusade” الذي استخدمه بوش يحمل في السياق الغربي دلالات الانتصار والحماسة والتبشير بالدين المسيحي، ويرتبط لدى المسلمين بذكريات مؤلمة عن الحروب الصليبية التي تمثل رمزا للعنف والاستعمار والاستغلال وتصريح بوش أعاد فتح هذه الجراح التاريخية مرة أخرى، ووضع السياسة الأمريكية في إطار استعلائي يرى في الولايات المتحدة وصيا على العالم العربي والإسلامي وتركة تتوارثها من الصليبين الأوائل مما أضفى بعدا أيديولوجيا على التدخلات العسكرية الأمريكية تحت غطاء محاربة الإرهاب.
حاول البيت الأبيض في ذلك الوقت تبرير استخدام المصطلح، وذكر دون اعتذار لنا كمسلمين أنه لا يعكس نوايا أيديولوجية أو دينية، وانتهى الأمر، وهذه الكلمة لم تمر مرور الكرام خاصة في العالم العربي والإسلامي حيث عمقت مشاعر الغضب تجاه الولايات المتحدة، فبدلا من تقديم حملة واضحة لمكافحة الإرهاب بدأ بوش يُعلن عن مواجهة حضارية بين الإسلام والغرب مما عزز الخطاب المتطرف، ومنح التنظيمات الإرهابية مبررا إضافيا لتجنيد الشباب الغاضب الذين رأوا في ذلك استهدافا صريحا للعالم الإسلامي ككيان موحد.
جاءت تصريحات بوش في سياق سياسي وعسكري حساس، ولم تكن مجرد كلمات عابرة والتدخلات العسكرية التي أعقبت تلك التصريحات امتدت من أفغانستان إلى العراق، ومن سوريا إلى ليبيا، وخلّفت آثارا كارثية بما في ذلك تدمير البنية التحتية وتشريد الملايين وبدلا من تحقيق الأهداف المعلنة بمحاربة الإرهاب أسهمت تلك الحروب في خلق فراغ سياسي وفوضى عارمة في العالم العربي والإسلامي وأدت إلى نشوء تنظيمات متطرفة جديدة.
فتصريح بوش لم يكن مجرد زلة لسان بل يعكس سياسة أوسع تهدف إلى فرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية على العالم العربي والإسلامي والتدخلات الأمريكية لم تُركز فقط على محاربة الإرهاب بل سعت أيضا للسيطرة على موارد المنطقة وإعادة تشكيل الخارطة السياسية بما يخدم المصالح الأمريكية، وهذه الإستراتيجية أضرت بسمعة الولايات المتحدة عالميا حيث باتت تُعتبر في معظم نظر شعوب العالم قوة استعمارية تعمل على فرض أجنداتها على الشعوب الأخرى بالقوة مما أدى إلى تراجع الثقة الدولية بها.
والسياسة الأمريكية أظهرت تناقضا واضحا بين الخطاب المعلن والممارسات العملية فبينما تتحدث واشنطن عن نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان جاءت تصرفاتها على أرض الواقع بما يتناقض مع ذلك، تماما كما تجلى في الانتهاكات التي شهدتها سجون مثل أبو غريب وغوانتانامو، هذه المشاهد المخزية أصبحت رمزا لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي، وأثارت غضبا واسعا.
واستخدام مصطلح “الحملة الصليبية” يعكس فهما محدودا أو تجاهلاً متعمداً لتأثير الكلمات ودلالاتها التاريخية في عالم تتداخل فيه الثقافات والسياسات بشكل عميق، ولا يمكن تجاهل تأثير الخطاب السياسي في تشكيل العلاقات الدولية واختيار المصطلحات في السياسة ليس مجرد مسألة لغوية بل يعكس التوجهات الأيديولوجية، ويؤثر على مواقف الشعوب.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على تلك التصريحات لا تزال آثارها واضحة للعيان والحروب التي أطلقتها الولايات المتحدة هنا وهناك لم تحقق استقرارا عالميا بل زادت من التوترات وأدت إلى موجات جديدة من العنف والتطرف والفراغ السياسي الذي خلفته تلك التدخلات شكّل بيئة خصبة لنشوء تنظيمات متطرفة جديدة مما جعل العالم أقل أمانا وأكثر انقساما.
تصريحات بوش التي وُصفت بأنها زلة لسان كانت في الواقع مؤشرا على إستراتيجية طويلة الأمد تسعى إلى تحقيق الهيمنة تحت ستار مكافحة الإرهاب و هذا النهج لم يُثمر سوى تصاعد الكراهية والعنف، وهو دليل على أن القوة العسكرية وحدها ليست كافية لتحقيق الأمن والاستقرار العالمي.
العالم اليوم بحاجة إلى نهج مختلف يقوم على الحوار والاحترام المتبادل بين جميع الثقافات والمعتقدات وبدلا من فرض السياسات بالقوة يجب التركيز على بناء علاقات دولية قائمة على العدالة والمساواة وتصريحات بوش حول “الحملة الصليبية” ستظل درسا قاسيا عن مخاطر استخدام الخطاب المتحيز، وعن أهمية تبني لغة تعزز التعاون بدلا من إشعال الصراعات.
في النهاية ألم يتضح بعد للسياسيين الأمريكيين أن نهج الاستعلاء السياسي الذي عكسته تصريحات بوش لن تحقق سوى تعميق الهوة بين الشعوب؟
ألا يجب أن يكون واقع الحال اليوم عبرة للقادة السياسيين بأن احترام الآخر هو الطريق الوحيد نحو تحقيق السلام في العالم، وليس بإشعال الحروب وإبادة الشعوب؟!
ألم يحن الوقت لأن يدركوا أن التاريخ لا يرحم الغطرسة، وأن الشعوب، وإن ضعفت لا تنسى الظلم، ولا تغفر لمن استباح حقوقها؟
إن دروس الماضي والحاضر واضحة: العدالة والاحترام المتبادل هما الركيزتان الأساسيتان لأي نظام عالمي مستدام أما القوة العمياء فلن تخلّف سوى دمار مؤقت وكراهية أبدية.
كاتب رأي